-
البث المباشر
دروس الخارج لسماحة الشيخ عبدالله الدقاق حفظه الله
-
المحاضرات
21
يناير | 2025محطات من سيرة علي بن أبي طالب (عليه السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
محطات من سيرة علي بن أبي طالب (ع)
السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خير خلق الله.
السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين، السلام عليك يا سيد البلغاء والمتكلمين، السلام على أسد الله الغالب علي بن أبي طالب صاحب المناقب، صاحب هذه الليلة، ذكرى ولادته الميمونة في الثالث عشر من رجب.
السلام على الزهراء البتول، السلام على بضعة الرسول، السلام على الحسن والحسين، السلام على التسعة المعصومين من صلب الحسين، السلام على إمامنا وولي أمرنا وإمام زماننا، الحجة محمد بن الحسن القائم المهدي، حججك على عبادك وأمنائك في بلادك.
نبارك لكم جميعًا ذكرى ولادة فخر الإسلام الخالد علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا للسير على خطاه وهديه وأن يوفقنا في الدنيا لزيارته وفي الآخرة يرزقنا شفاعته إنه تعالى على كل شيء قدير.
"محطات من سيرة علي بن أبي طالب عليه السلام".
وماذا عساني أن أتكلم في شخصية عظيمة محورية كلت الألسن عن وصفها وبيان عظمتها، ولعل أبلغ وصف هو ما وصف به المعصوم عليه السلام. يوجد كتاب طبع في ثلاثة مجلدات، طبعته جماعة المدرسين، حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على لسانه، هذا أفضل تعبير، فإنه لا يعرف المعصوم إلا المعصوم، وأنى لغير المعصوم أن يدرك كُنه المعصوم عليه السلام، ولكن لا بأس بذكر بعض الكلمات التي تأملت وتمعنت في حياة علي بن أبي طالب المباركة.
ولنتطرق إلى كلمات من خالفنا في الدين والمذهب والاعتقاد لنرى مدى انبهارهم بهذه الشخصية العظيمة، يقول جبران خليل جبران، رائد المدرسة الحديثة في الأدب العربي، وهو مسيحي المذهب من لبنان: "العظماء في العالم ثلاثة: عيسى ومحمد وعلي".
ذاك بولس سلامة المسيحي أيضًا قد تأمل في شخصية علي عليه السلام فكتب القصائد الغزيرة السبع وأنشأ يقول: "لا تقل شيعة هواة علي، إن كل منصف شيعي، هو فخر التاريخ لا فخر شعبٍ يصطفيه ويدعيه وليًّا، جلجل الحق في المسيحي حتى عُدّ من فرط حبه علوياً. أنا من يعشق البطولة والإلهام والعدل والخلق الرضيا. فلئن لم يكن علي نبيًا، فلقد كان خلقه نبوياً. يا سماء اسمعي، يا أرض قري واخشعي إنني ذكرت عليا".
وذاك بولس سلامة من عائلة درزية لبنانية، معروف في الأدب العربي، وقد دُعي إلى مصر لتكريمه فقال من قال من على المنصة: "شخصيتان في التاريخ تستحقان لقب أمير البيان: علي بن أبي طالب وشكيب أرسلان"، فقام شكيب أرسلان مغضبًا حتى اعتلى الأعواد والمنصة وقال: "أين أنا وأين علي بن أبي طالب؟! أنا لا أسوى شسع نعل علي بن أبي طالب".
وذاك عبد الحميد بن يحيى الكاتب، الذي يقول فيه الثعالبي في "يتيمة الدهر": "بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد"، هذا من باب التفخيم والتعظيم، كما يقال: "بدأ الشعر بامرئ القيس وانتهى بأبي فراس"، كناية عن بداية العظمة ونهايتها.
فعبد الحميد الكاتب، وهو أموي، وقد كان كاتبًا لمروان بن محمد، آخر خلفاء بني العباس، الذي لقب بالحمار، وقتل مع مروان الحمار، فكان ناصبيًا. وسُئل عبد الحميد: "من أين تعلمت الكتابة؟" فقال: "حفظتُ سبعين خطبةً من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت"، يقصد بالأصلع أمير المؤمنين، لأنه ناصبي، عبر عنه بهذه الكلمات، لكن الفضل ما شهدت به الأعداء.
وذاك ابن أبي الحديد المعتزلي من أهل السنة، شارح نهج البلاغة في عشرين مجلدًا، يقول في حق شجاعة علي عليه السلام: "يا قالع الباب الذي عنه هزه عجزت أكف أربعون وأربع، أأقول فيك سميدع؟! كلا ولا حاشى لمثلك أن يقال سميدع".
وهكذا لو أردنا أن نتتبع الكلمات التي قيلت في حق أمير المؤمنين لاحتجنا إلى مطولات دونك ما قاله معاوية بن أبي سفيان حينما جاءه أحدهم وقال له: "من أين جئت؟" فقال: "جئتك من عند أعيى الناس وأبخل الناس"، فنهره معاوية: "ويحك، هل يوجد من هو كريم، فهل يوجد من هو أكرم وأبلغ من علي بن أبي طالب؟" هكذا يقول معاوية بن أبي سفيان.
ولا بأس أن نذكر خمس محطات نتبرك بها ونتأسى بها من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
المحطة الأولى شدة الإخلاص، ولو في أحلك الظروف، الإنسان له سجايا ومزايا في حالة الرخاء، وحقيقته تظهر عند الشدة، يقول علي عليه السلام: "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال"، إذا أردت أن تعرف حقيقة شخصٍ، فانظر إلى عينه عند غضبه، فإنك ستكتشف حقيقته".
يحدثنا التاريخ أن أمير المؤمنين عليه السلام لما جلس على صدر عمرو بن عبد ود العامري، وكان عمرو يعد بألف فارس، وعلي ابن أبي طالب عليه السلام كان صبيًا في ذلك الوقت، وكان حدث السن، فما أعظمه من عار عند العرب والصناديد أن يجثو على صدرهم صبي صغير، فقال عمرو بن عبدود العامري لعلي عليه السلام: "ويحك، ارحني وخلصني"، لا يستطيع أن يتحمل هذا الوضع، وأمير المؤمنين عليه السلام جالس بكل اطمئنان وهدوء.
فأراد عمرو بن عبدود أن يستثير غضب أمير المؤمنين، فبصق في وجه علي عليه السلام لكي يغضبه ويسرع بحز رأسه، فما كان من علي عليه السلام إلا أن قام من على صدر عمرو بن عبد ود العامري، والمسلمون متعجبون: "هيا يا علي، اقطع رأسه يا علي!"، فمشى أمير المؤمنين عليه السلام ثم رجع وجثا على صدره واحتز رأسه.
سُئل علي عليه السلام: "لم لم تعجل بقطع رأسه يا علي؟" فقال: "بصق اللعين في وجهي فغضبت، فخشيت أن أقطع رأسه لغضب نفسي لا لغضب الله عليه، فقمت من على صدره ومشيت حتى تذهب سورة الغضب، فلما ذهب الغضب جلست وقطعت رأسه لغضب الله عليه فقط، لا لغضب نفسي".
لاحظوا شدة الإخلاص، هذا الجوهر. يا أخي يا أخي، هناك ناس مثل الزجاج، إذا تضرب الزجاج يكون صوته قويًا والإزعاج يتجلى في ثناياه، فتتناثر قطع الزجاج وتدخل في العيون، وبعض الناس مثل الذهب، كلما طرقته كان الطرق خفيًا، لكنه يشتد لمعانًا وبريقًا. فهل أنت من صنف الذهب الذي إذا طُرق يلمع، أم أنت من صنف الزجاج الذي صوته كبير وآذاه عميق؟!
أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام يعلمنا الإخلاص، والمراد بالإخلاص أن يكون العمل لله وحده لا شريك له، فالإيمان بالله فيه عقد إيجابي، أن تعتقد بوحدانية الله، ولكن في الإخلاص يوجد عقد سلبي، أن لا يكون العمل لغير الله، في الرواية وفي الحديث القدسي: "أنا خير الشريكين، فإذا جئت بالعمل لي ولغيري فهو لغيري"، دائمًا هل تلاحظ نفسك أن يكون هذا العمل لله وحده لا شريك له، وهذا يتجلى في أحلك الظروف وأصعب المواقف.
إذاً المحطة الأولى من سيرة علي عليه السلام هي شدة وعمق الإخلاص، ولو في أحلك الظروف.
المحطة الثانية: التضحية والفداء.
اجتمعت ثلاثون قبيلة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وانتخبوا من كل قبيلة رجلاً، فاجتمع ثلاثون رجلاً لقتل النبي صلى الله عليه وسلم. فدعا النبي أمير المؤمنين عليًا عليه السلام، وقال: "يا علي، أنت تبيت في فراشي".
فماذا كان موقف علي عليه السلام هو أنه قال: "أوى تسلم يا رسول الله؟" لم يقل: "أوى أسلم يا رسول الله"، بل قال: "أفي سلامة من ديني يا رسول الله؟" هذا هو لسان حال الفدائي، يلحظ السلامة في الدين لا سلامة النفس. والجود بالنفس أقصى غاية الجودِ.
وفعلاً، يبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش النبي، فيتفاجأ مشركو قريش بأن الذي بات في الفراش هو علي عليه السلام وليس الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
هذه المحطة تعلمنا أن المناط في الفداء هو لحاظ سلامة الدين وقوة الدين وقوة المذهب، وليس السلامة الشخصية.
وهكذا سار العلماء الذين ساروا على درب علي عليه السلام، كحفيده الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه، آخر مكالمة في إذاعة طهران كانت عندما اتصلوا بالشهداء الصدر، وهو في حصاره محاصر في بيته، السائل يقول له: "كيف صحتكم يا سيدنا؟" فقال: "صحتي لا أهمية لها"، وهو في أصعب الظروف لا ينظر إلى نفسه، بل ينظر إلى رضوان الله تبارك وتعالى.
المحطة الثالثة من سيرة أمير المؤمنين: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
أوسمعتم بقصة أم الولد وثقافة أم الولد؟ جاءت امرأتان إلى أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين وهما يتنازعان. فقالت المرأة الأولى: "يا علي، هذا ولدي"، وقالت المرأة الثانية: "يا علي بن أبي طالب، إنه ولدي وليس ولدها". وإذا بأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "قمبر، علي بسيفي"، فتعجبت إحدى النساء وقالت: "ماذا تصنع يا علي؟" فقال: "أريد أن أشطره نصفين، نصف لك ونصف لها". فقالت: "لا يا علي، إنه ليس ولدي، إنه ولدها". فقال علي عليه السلام: "بل إنه ولدك الحقيقي".
الأم الحقيقية لا تتحمل أن ترى طفلها يشطر أمامها نصفين، لكنك آثرتي حياة الولد وبقاءه على قيد الحياة على احتضانك له، فتنازلت عن حقك الشخصي من أجل حياة الولد"، هذا ما نعبر عنه بثقافة أم الولد: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
أمير المؤمنين كان يقول: "لأسالمَن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة، غصبت منه الخلافة، لكنه صبر رعاية للمصلحة العامة للمسلمين، وإن ذهب حقه الشخصي"، وما أحوجنا إلى هذا الخلق في حياتنا العملية.
البعض يتنازع على مسجد أو حسينية أو موكب أو مدرسة أو مؤسسة، ويقول: "هذا هو حقي الشخصي، ويعلم الله أنني لم أتحدث لامر شخصي بل لتكليفي الشرعي وأداء حق العمامة، وعلماء الدين"، من يتفوه بهذه الكلمات ينبغي أن يراقب نفسه جيدًا، هل فعلاً جميع ما قاله لله أم داخله شيء من أمور النفس؟! وهذا بحث عميق في الأخلاق.
يقول الإمام الخميني العظيم أعلى الله مقامه: "أساس جميع الشرور القيام للنفس، وهو أساس جميع الخيرات القيام لله"، لا يوجد شيء لله وللنفس لا يجتمعان، أساس جميع الخيرات هو القيام لله، يعني من أجل الله وحده، لا شريك له. وأساس جميع الشرور هو القيام للنفس.
له عبارة أخرى: منشأ أكثر المشاكل أن يرى الإنسان نفسه شيئًا، "فلان أهانني، فلان حقّرني، فلان كذا"، أكثر المشاكل إذا رأيت نفسك شيئًا، لكن من تواضع لعظمة الله عزوجل، أكثر هؤلاء لا تحصل بينهم هذه المشاكل.
المحطة الرابعة من محطات أمير المؤمنين عليه السلام: قوة الإرادة الداخلية وقوة الصبر الخارجية.
فالهزيمة الخارجية هي انعكاس لهزيمة داخلية، والنصر الخارجي هو انعكاس لإرادة فولاذية داخلية، يحدثنا التاريخ بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا قبض على يد الفارس، فكأنما قد قبض على أنفاسه، وكان يمتلك حالة معنوية عظيمة، بحيث إذا أقبل، انهزم الجيش وولّوا من بين يديه.
انظروا إلى كتاب "مروج الذهب" للمسعودي، وهو يؤرخ لوقاعة الجمل، يقول: "خرج علي بن أبي طالب على بغلته مجرّدًا من السلاح لمقابلة ابن عمته، ابن صفية بنت عبد المطلب، وهو الزبير ابن العوام.
الزبير ابن عمة النبي، وكان من الأبطال، وكان سيفه طالما كشف الهم والغم عن وجه رسول الله، لكن وُلد له ابنه عبد الله، فأغواه. وفي الرواية: ما زال الزبير منا بخير حتى وُلِد له ابنه المشؤوم عبد الله".
هذا الزبير المعروف بالبطولة، إلى الآن يتفاخرون به، إذا تزورون متحف إسطنبول في تركيا، حيث كانت الخلافة العثمانية، هناك يوجد سيف يُنسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ويوجد سيف يُنسب إلى الزبير بن العوام، وهو طويل جدًا، وهناك أيضًا قميص فاطمة، وبعض الأمور، وشعرة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله.
الشاهد: فقال الناس: قد خرج علي على بغلته لمواجهة الزبير بن العوام، فقالت عائشة بنت أبي بكر: "وا ترمل وأختها"، فقيل لها: "إنه لم يخرج بلمة حربه"، وكان الزبير بن العوام زوج أسماء ذات النطاقين، كما يقولون أسماء بنت أبي بكر.
وهذه الحادثة التاريخية من عجائب الدهر تقول: "جاء أمير المؤمنين والتقت بغلة أمير المؤمنين ببغلة الزبير بن العوام، حتى اسطكت أذناه". فقال علي عليه السلام: "يا زبير، أذكرك بحادثة، هل تتذكر يا زبير أنك كنت جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فجئت قادمًا من بعيد. فقال لك رسول الله: يا زبير، أتحب علي؟ فقلت: أي والله. فقال لك: لتقاتلنه وأنت له الظالم".
فقال الزبير: "نعم، تذكرت ويكأنه للتو اسمعها".
فقال علي عليه السلام: "إذاً يا زبير، ارجع".
فقال الزبير بن العوام: "أرجع بعد أن التقى الصفان؟! إنه العار!".
فقال علي عليه السلام: "ارجع يا زبير قبل أن تجمع العار والنار".
فخرج الزبير بن العوام بعد ذلك، فقال مروان بن الحكم الوزغ بن الوزغ: "نجتمع للقتال، ويهرب الزبير، والله لا أبالي، أرمي هاهنا أو أرمي هاهنا"، فصلت كبد قوسه على طلحة بن عبيد الله، ورماه بسهم في عنقه وذبحه، الذي قتل طلحة هو مروان بن الحكم.
وخرج الزبير بن العوام ورآه ابن جربوع، فأخذه غيلة. قال له: "أعطني لامة حربك، وتوضأ"، فنزع الزبير لامة حربه فقتله ابن جربوع. ثم جاء برأسه إلى علي بن أبي طالب، فقال: "البشارة، البشارة، أريد الجائزة".
فقال أمير المؤمنين: "وما البشارة؟".
قال: "هذا رأس الزبير بن العوام".
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: "إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار".
حوادث مرّة في التاريخ الإسلامي.
عموماً المحطة الرابعة من محطات أمير المؤمنين عليه السلام تعلمنا الكثير في حياتنا العملية.
المحطة الخامسة: وهذه المحطة تبين قوة الإرادة الداخلية لأمير المؤمنين، وهذا مهم جدًا، من أمثلتها في التاريخ السياسي المعاصر، يقولون: غزا نابليون روسيا، وخرج له الناس سماطين على اليمين وعلى اليسار، وحينما مر جيشه، التفت إلى وجود حارث يحرث في مزرعته، ولم يلتفت إلى نابليون. قال: "أحضروا"، فأحضروا.
قال: "يا هذا، هل تعرف من أنا؟"
فقال الحارث: "حرثي أهم من معرفتك، ولا يهمني من أنت".
فقال نابليون: "أنا نابليون الفرنسي، جئت لغزو بلادك".
فقال له: "ما أنت إلا وغد حقير قد جاء لاحتلال بلدي".
فغضب نابليون وقال: "لا أسمنك بسمة لن تنساني أبدًا، احموا الحديدة"، جاؤوا بالحديدة، ضرب على كفه بالحديدة اسم نابليون.
فماذا عمل ذلك الحارث المزارع؟ فما كان منه إلا أن عمد إلى المنجل وقطع يده، ورمى بها وجه نابليون. وقال: "يد خائنة لا يشرفني حملها".
فقال نابليون مقولته المشهورة: "من هنا تبدأ الهزيمة"، أي من ضعف الإرادة الداخلية تبدأ الهزيمة الخارجية.
وهذا ما يروج له الإعلام حاليًا، يقول: إن إسرائيل قد قتلت الشهيد السيد حسن نصر الله، والشهيد السيد صفي الدين، وقتلت الصف الأول والصف الثاني من حزب الله، وأسقطت نظام الأسد، و و و لإضعاف عزيمة الأمة وإرادة الأمة.
لكننا أبناء علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي يُحدثنا التاريخ أن عمرو بن ود العامري، الذي كان يُعد بألف فارس، لما استطاع أن يَقتحم الخندق. والنبي خاطب أصحابه: "من يبرز لعمرو وأنا أضمن له على الله الجنة؟" فلم يقف أحد إلا علي بن أبي طالب عليه السلام. فقال: "أنا له يا رسول الله" ثلاث مرات، فقال النبي مقولته المعروفة: "برز الإسلام كله للشرك كله"، وحينما ضربه علي عليه السلام، قال النبي: "ضربة علي لعمر يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين إلى يوم القيامة".
سؤال: لماذا هذه الضربة أفضل من عمل الثقلين، الإنس والجن، إلى يوم القيامة؟
الجواب: الله عز وجل يُثيب المرء على قوة إخلاصه، وأنى لنا أن نأتي بإخلاص علي عليه السلام في تلك الضربة.
يقول المؤرخون: كان علي راجلًا وعمرو فارسًا. فنظر إليه وهو صبي، قال: "من أنت؟" قال: "أنا علي بن أبي طالب". فأجابه عمرو بن ود: " كنت أعرف أبا طالب وأكره أن أرى قدمك". فقال علي عليه السلام: "ولكني والله أحب أن أسمك دمك". لاحظ قوة الإرادة، لم يهزه أن هذا ألف فارس، وأن أمريكا قتلت ما قتلت، وأن إسرائيل قتلت ما قتلت، المؤمن إرادته فولاذية، تزول الجبال ولا تزول.
المحطة الخامسة والأخيرة من سيرة علي عليه السلام: قوة القيادة والانقياد.
أمير المؤمنين أفضل مقود ومنقاد لنبينا أبي القاسم محمد، وحينما استشهد مالك الأشتر قال في تأبينه: "كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله"، الآن يوجد مثل في الفارس معروف: أن المملكة تحتاج إلى صاحب، والصاحب يحتاج إلى مالك"، يعني إلى وزير ومعين، أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين كان نعم الوزير ونعم المعين لرسول الله صلى الله عليه وآله.
وحينما تولى الخلافة الظاهرية، كان خير قائد للبلاد الإسلامية، فعلى الرغم من ابتلائه بحروب ثلاثة في أقل من خمس سنوات، أربع سنوات وثمانية أشهر، ابتلي بحرب الجمل وحرب صفين وحرب النهروان، وحينما وُلي الخلافة كان الفقر سائدًا. وفي نهاية خلافته، يقول المؤرخون: زادت الحبوب، فقال: "انثروها على الجبال حتى لا يقال جاء طير في بلاد المسلمين"، هذا إشارة إلى الرفاه الاقتصادي.
إذا أردنا أن نسير على هدي علي عليه السلام، فلنتحلى بهذه المحطة: قوة الإخلاص، التضحية والفداء، تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، قوة الإرادة النفسية والصلابة الخارجية، وقوة القيادة والانقياد. وهكذا سار على هدي أمير المؤمنين حفيده الصالح الشهيد السعيد السيد حسن نصر الله أعلى الله في الخلد مقامه.
الشهداء كثر كما العلماء كثر، فما الذي تميز به الشهيد القائد السيد حسن نصر الله حتى وصل إلى هذه المرتبة وهذه المنزلة؟ الشهداء ما أكثرهم، لكن المتميزين منهم يشار لهم بالبنان، كالشهيد القائد قاسم سليماني رحمة الله. فبمَ تميز الشهداء قادة محور المقاومة؟
هذه الخصائص والمميزات على قسمين:
القسم الأول ما يرجع إلى تقوية الحسن الفاعلي.
القسم الثاني ما يرجع إلى تقوية الحسن الفعلي.
أما القسم الأول الحسن الفاعلي يعني الإخلاص وسلامة النية، هناك عدة أمور تسهم في تقوية الحسن الفاعلي، يعني حسن النية وصدق النية، مثل صلاة الليل، التهجّد، التوسل، الإخلاص، وصحبة الأبرار.
أمور كثيرة تسهم في تقوية الحسن الفاعلي وسلامة النية. تقول في الدعاء: "اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية وصدق النية"، الطاعة والمعصية فعلان وعملان، فقال: "اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية"، ثم عطف على شيء مهم وهو صدق النية.
أما القسم الثاني وهو إتقان العمل (الحسن الفعلي)، فهناك ثلاثة أمور مهمة، لو كل واحد منا تحلّى بها سيكون متميزًا.
الأمر الأول: قوة التخطيط.
الأمر الثاني: بناء الكوادر البشرية.
الأمر الثالث: توفير الإمكانيات المادية.
من يتأمل في سيرة الشهيد نصر الله وسليماني وأبي مهدي المهندس وقادة محور المقاومة، يجد أولاً أنهم يمتلكون عقلًا استراتيجيًا يستطيع أن يستقرأ الواقع والمستقبل، كانت لديهم قدرة على قراءة خطط الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، ووضع الخطط المضادة والبديلة.
فالشخص الذي يمتلك عقلية استراتيجية يمكن أن يضع خطة استراتيجية لخمس سنوات، وخطة تكتيكية لسنتين، وخطة تشغيلية لسنة، وخطة يومية يواظب عليها كل يوم، فإنه يستطيع أن يمر ويعبر بأمته إلى بر الأمان.
الأمر الثاني هو قوة بناء الكوادر البشرية.
في أول يوم يأتي خبر سقوط الموصل واستيلاء داعش عليها، استقل الشهيد قاسم سليماني طائرته إلى لبنان وذهب إلى الشهيد السيد حسن نصر الله، وقال له: "أعطني مئة من كبار قادتك في حزب الله". فقال له السيد حسن: "رحمه الله، هلاء نائمين؟" فقال له الشهيد قاسم سليماني: "فيئهم" فسحبوهُم من مخادعهم وغرف نومهم، وذهبوا إلى العراق ودربوا فصائل المقاومة"، فتشكل الحشد الشعبي.
هذه قدرة، قدرة الشهيد قاسم سليماني على تشكيل لواء فاطميون من الأفغان، وزينبيون من باكستان، وحسينيون، وحيدريون، ومهدويون، هذه قدرة.
الأمر الثالث: القدرة على توفير الإمكانيات المادية والأموال.
أي طالب من طلاب العلوم إذا ذهب إلى أي منطقة للتبليغ، أولاً إذا كان لديه عقلية تبليغية قوية، ثانيًا إذا كان يستطيع أن يتعامل مع البشر ويرتب أمورهم ويبني كوادرهم، ثالثًا إذا كان يستطيع أن يوفر الإمكانيات لهم، فهو مبلغ ناجح بامتياز.
وهذا الكلام ليس بجديد، بل يمكن أن يُفهم من المقولة المشهورة التي سمعناها ونختم بها وهي: "قام الإسلام بسيف علي وأموال خديجة وأخلاق محمد".
سيف علي يمثل قوة العناصر البشرية، البعض يرى أن من معاجز النبي صناعة شخصية علي بن أبي طالب عليه السلام، مال خديجة يمثل قوة الاستثمار وتوفير الإمكانيات والأموال، يعني نحتاج إلى مركزين: المركز الأول هو مركز توفير الاستثمارات والإمكانات، والمركز الثاني هو مركز تدريب العناصر البشرية، ما تقوم به الكشافة من تعميق روح المسؤولية وبناء الكوادر البشرية، وهكذا مراكز التأهيل والتنمية البشرية.
يبقى العنصر الثالث أخلاق محمد صلى الله عليه وآله، أخلاق النبي كانت بتخطيط إلهي، يقول علي عليه السلام في خطبته القاصعة، واصفًا النبي محمد صلى الله عليه وآله: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يدعوه إلى طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليلاً ونهارًا".
يعني هذا أعظم ملك كان يرعى النبي ليلاً ونهارًا حتى حازم حسن أخلاق العالم، حتى سلك طريق المكارم.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لسلوك طريق المكارم، وأن يثبتنا على ولاية علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، وما أعظمها من نعمة.
نختم بقصة حجر بن عدي في مرج عذراء، حينما احتوشه أزلام معاوية، فقيل له: "يا حجر، نقتلك أولاً أم نقدم قتل ولدك؟" فقال: "بل قدم ولدي". فقالوا له: "ما أقساك!" فقال: "إني خشيت أن يرى حرارة السيف على رقبتي فيتراجع عن ولاية علي بن أبي طالب، ولكنني أحببت أن أجر أجرين، أجر في ولدي وشهادته، وأجر في بقائي وبقاء ولدي على ولاية علي بن أبي طالب".
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وأعتذر على الإطالة والاستطالة، أنا لم أرغب في الإطالة، لكن الإخوة حددوا بعض الدقائق، وإلا عادة ما أتكلم أكثر من نصف ساعة، ولكن نزولًا لرغبة الإخوة والأحبة، فاعذروني كثيرًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه غفور رحيم وتواب حليم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
تعليق