تفسير البيان
شیخ الدقاق

083 - آراء حول السجود لآدم والشفاعة

تفسير البيان

  • الكتاب: البيان في تفسير القرآن
  • الجزء

    -

  • الصفحة  

    500

07

2023 | مايو

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصل الله على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى أبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعينا حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلِ اللهم على سيدنا ونبينا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
آراء حول السجود لآدم
أتضح أن السجود لغير الله حرام ولو لم يكن على وجه العبودية فقد دل الدليل على أن السجود خاص بالله تبارك وتعالى إذ أن السجود يشير إلى غاية التذلل والخضوع وهذا لا يصح إلا لله تبارك وتعالى ومن هنا يقع الكلام كيف جاز سجود الملائكة لآدم "عليه السلام" مع أن السجود لا يجوز لغير الله وقد أجاب العلماء على ذلك بوجوه منها ثلاثة آراء:
الرأي الأول أن يكون السجود في الآية بمعنى الخضوع وليس بمعنى السجود المعهود بالكيفية الخاصة ويرده أن هذا خلاف ظاهر لفظ الآية الكريمة فلا يمكن القول به من دون قرينة خصوصا أن الروايات الشريفة قد دلت على أن أبن آدم إذا سجد لربه ضجر إبليس وبكى وهي دالة على أن سجود الملائكة الذين أمرهم الله تبارك وتعالى واستكبر عنه إبليس كان بهذا المعنى وهو الكيفية المعهودة لذلك يضجر إبليس لأن الناس تعبد الله وتسجد له وتطيعه فإذا أطاع أبن آدم رب العالمين وسجد له يضجر إبليس لأنه قد عصى من قبل إذن الرأي الأول ليس بتام.
الرأي الثاني إن سجود الملائكة كان لله وإنما كان إبليس قبلة لهم كما يقال صل للقبلة أي أتجه إلى القبلة يعني صلي لله باتجاه القبلة وقد أمرهم الله تبارك وتعالى بالسجود له باتجاه آدم "عليه السلام" تكريما له وتعظيما لشأنه ويرده إن هذا تأويل ينافي ظاهر الآيات والروايات بل ينافي صريح الآية المباركة فإن إبليس إنما أبا عن السجود لأنه يرى أنه أفضل من آدم ويرى أنه أشرف من آدم فلو كان السجود لله وكان آدم قبلة لإبليس والملائكة لما كان لقوله تبارك وتعالى (أأسجد لمن خلقت طينا معنا معين) ما له معنى لجواز أن يكون الساجد أشرف مما يستقبله يعني اشرف من الشيء الذي يستقبله النبي يستقبل القبلة أيهما اشرف النبي محمد "صلى الله عليه وآله" أو الكعبة؟ النبي اشرف من الكعبة قطعا ومع ذلك يتجه إلى القبلة وإبليس اعترض لأنه كان يرى أنه اشرف من آدم "عليه السلام" لا لأنه يرى أن آدم قبلة له إذن هذا الرأي الثاني ليس بتام.
الرأي الثالث إن السجود لآدم "عليه السلام" كان بالكيفية المعهودة لكن حيث كان هذا السجود بأمر الله تبارك وتعالى فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود لله.
بيان ذلك
السجود هو غاية الخضوع والتذلل ولذلك خصه الله تبارك وتعالى بنفسه ولم يجزه لغيره ولم يرخص لعباده أن يسجدوا لغيره تبارك وتعالى وإن لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد والربوبية للمسجود له إلا أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله كان عبادة فيكون في الحقيقة عبادة لله وتقربا إلى الله لأنه امتثال لأمر الله وانقياد لحكم الله وإن كان من ناحية الشكل والصورة تذللا للمخلوق ومن أجل ذلك صح عقاب المتمرد على أمر الله تبارك وتعالى ولا يصح اعتذار المتمرد الذي لم يطع الله ولا يمتثل أمره بأنه لا يتذلل للمخلوق ولا يخضع لغير الآمر وهذا هو الوجه الصحيح فإن العبد يجب أن لا يرى لنفسه استغلالا عن الله تبارك وتعالى فهو في جميع أموره يطيع مولاه من حيث يهوي ويشتهي ومن حيث لا يشتهي فإذا أمره الله بالخضوع لأحد وجب عليه أن يمتثل هذا الأمر وكان خضوعه حينئذ خضوعا لمولاه الذي أمره به.
النتيجة النهائية لابد في كل عمل يتقرب به العبد إلى ربه من أن يكون مأموراً من قبل الله تبارك وتعالى إما بدليل خاص أو دليل عام وإذا شك في أن ذلك العمل مأمورا به ويمكن التقرب به أو لا يحرم التقرب بذلك العمل بالأدلة الأربعة، كما في رواية جاء رجل إلى الإمام الصادق (قال يابن رسول الله اخترعت عبادة قال دعني مما أخترعت وخذ هذا عني) نعم إن زيارة القبور وتقبيل القبور وتعظيمها مما ثبت جوازه بالعمومات وبالروايات الخاصة من طرق أهل البيت "عليهم السلام" الذين جعلهم الله قرناء الكتاب فالأئمة عدل القرآن بمقتضى حديث الثقلين (إن تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا) ويؤكد جواز زيارة القبور سيرة المسلمين وجريهم عليها من السلف والخلف وقد تقدم ما ذكرناه من روايات أهل السنة فيمكن مراجعة التعليقات لبيان مصادر حديث الجواز، جواز زيارة القبور فقد ذكر المتقي الهندي قرابة ثمانية رواية تدل على جواز زيارة القبور.
كيف يتحقق الشرك بالله؟
إذا نهى الله "عز وجل" عن خضوع لغيره كالسجود أو نهى عن عبادة خاصة كصوم يوم العيدين أو نهى عن صلاة الحائض أو الحج في غير الأشهر الحرم أشهر الحج شوال وذي القعدة وذي الحجة وواحد يريد يحج في شهر رمضان أو في ربيع على مزاجه كان الآتي بهذا النسك مرتكبا للحرام ومستحقا للعقاب لأنه بدعة والبدعة إدخال ما ليس في الدين بالدين لكنه على الرغم من ارتكابه لهذا الحرام لا يكون بفعله هذا كافرا أو مشركاً فليس كل محرم يقتضي شرك مرتكبه أو كفره إذن ما هو الشرك؟
الشرك إنما هو الخضوع لغير الله على نحو العبودية، مثلا حتى لو جاء واحد سجد للقبر لكن لا على نحو العبودية هو ارتكب حرام لأنه لا يجوز السجود لغير الله وإذا كان متعمدا يكون مأثوما إذا لم يكن متعمدا بأن كان جاهلا لا يعلم أنه لا يجوز السجود لغير الله حتى الإثم لا يحصل له إذن من سجد للضريح إن كان عالما كان آثما إذ أن الإثم فرع العلم والعمل وإن كان جاهلا لم يثبت أثمه وإن سجد للقبر على وجه العبادة كان مشركا.
وأما إذا لم يكن ساجدا للقبر على وجه العبادة فلا يكون مشركا إذن الشرك إنما هو الخضوع لغير الله على نحو العبودية أي أن الخاضع عبد والمخضوع له رب فمن تعمد السجود لغير الله بغير قصد العبودية لم يخرج بعمله المحرم هذا عن زمرة المسلمين فإن المدار في الإسلام على الإقرار بالشهادتين ومن تشهد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله حرم ماله ودمه والروايات الدالة على حقن دم المسلم وحرمة ماله بالتلفظ بالشهادتين متواترة من طرق الفريقين السنة والشيعة ومع ذلك كيف يحكم بشرك من زار قبر النبي "صلى الله عليه وآله" وأوصياءه متقربا إلى الله وهو يشهد الشهادتين.
قال تعالى (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ولسوف يحكم الله بين عباده بالحق وهو أحكم الحاكمين).
دواعي العبادة
الدواعي ثلاث ومعروفة تشير إليها الرواية التي رويت عن الإمام أمير المؤمنين وغيره من الأئمة كالإمام السجاد أمير المؤمنين حينما يقول (ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) إذن ثلاث عبادات عبادة التجار الذين يرجون الجنة وعبادة العبيد الذين يخافون النار وعبادة الأحرار الذين عبدوا الله لأن الله "عز وجل" يستحق العبادة وأهل للعبادة.
العبادة فعل اختياري فلابد للعبادة من باعث نفساني يبعث نحوها وهو أحد أمور:
الأول عبادة التجار أن يكون الداعي لعبادة الله هو طمع الإنسان في إنعام رب العالمين وبما يجزيه عليها من الأجر والثواب حسبما وعده في كتابه الكريم ( ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار) (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم).
الأمر الثاني عبادة العبيد أن يكون الداعي للعبادة هو الخوف من العقاب على المخالفة قال تعالى (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) وقد أشير إلى كلا الأمرين الطمع في الإنعام والخوف من العقاب في عدة من الآيات الكريمة كقوله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا وأدعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين يبغون إلى ربهم الوسيلة أي هم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه).
الأمر الثالث عبادة الأحرار أن يعبد الله بما أنه أهل لأن يعبد فإن الله الكامل بالذات والجامع لصفات الجمال والكمال والجلال وهذا القسم لا يكون إلا للمعصومين "عليهم السلام" هذا القسم عبادة الأحرار لأنه يحتاج إلى معرفة بالله "عز وجل" لا يتحقق إلا من اندكت نفسيته فلم يرى لذلك أنية يعني ماذا أنية إزاء خالقه يعني وجود لا يرى نفسه موجودا أمام خالقه تقول واجب الوجود ماهيته أنيته يعني وجوده الأنية في الفلسفة يعني الهوية لا يرى لنفسه هوية أمام الله واجب الوجود ماهيته أنيته يعني ماهيته وجوده يعني الهوية هي نفس الوجود لله "عز وجل" فمن ينظر يعني الشخص العارف الحقيقي لا يرى نفسه شيئا أمام الله "عز وجل" حتى يقصد بها خيرا فهي تكون من عبادة التجار أو يحذر لها من عقوبة فتكون من عبادة العبيد وإنما ينظر إلى صانعه وموجده هذه إشارة إلى مطلب عرفاني عميق وهو مبدأ التوحيد عند العرفاء، العرفاء يرون أنه لا وجود إلا الله ولا مؤثر إلا الله لا يوجد شيء إلا الله فإذا أنا وأنت ما موجودين لا يوجد إلا الله فإذن كيف يأتي الخوف من العقاب أو الطمع في الجنة أصلا موجود ما موجود فمن اندكت نفسيته لم يرى لذاته أنية يعني وجوداً إزاء خالقه يعني مقابل خالقه ليقصد بهذه الآنية يعني بوجوده يقصد بها خيراً يعني الجنة أو يحظر لها من العقوبة النار فهو لا ينظر إلا إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا إليه وهذه مرتبة لا يسعنا التصديق ببلوغها لغير المعصومين الذين أخلصوا أنفسهم لله.
السيد الخوئي يقول في التفسير إشارات فلسفية وعرفانية فهم المُخلَصون وليس المُخلِصون، مُخلِصون هذا محرم أولا أخلصوا فهم مخلِصون ثم أخلصهم الله فهم مُخلَصون، درجة المخلَص ارفع من درجة المخلِص، فهم المخلصون الذين لا يستطيع الشيطان أن يقترب من أحدهم لأنهم مخلصون يعني معصومون الله أخلصهم، (ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المُخلَصين).
رب العالمين يثيب الإنسان على قدر إخلاصه لا على قدر علمه الثواب يترتب على الإخلاص كلما ازداد الخلاص كلما ازداد الثواب ومن هنا جاء (ضربة علي لعمر يوم الخندق أفضل من عمل الثقلين إلى يوم القيامة) ضربة أخلاص ضربة خالصة لله "عز وجل" قال أمير المؤمنين "صلوات الله عليه" (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) وأما سائر العباد من غير المعصومين "عليهم أفضل صلوات المصلين" فتنحصر عبادتهم في أحد القسمين إما عبادة التجار أو عبادة العبيد ولا يسعهم تحصيل هذه الغاية عبادة الأحرار ومما ذكرناه يتضح بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة عن الطمع أو الخوف واعتبر في صحة العبادة أن تكون لله بما هو أهل للعبادة.
وجه البطلان ثلاثة أمور:
الأمر الأول يستحيل التكليف بغير المقدور هذه كبرى، الصغرى هو عامة البشر لا يتمكنون من الإتيان بعبادة الأحرار فيمكن تكليفهم بما لا يطاق.
الدليل الثاني الآيتان الكريمتان المتقدمتان قد دلتا على صحة العبادة إذا صدرت عن خوف أو طمع فقد مدح الله سبحانه من يدعوه خوفا أو طمعا وذلك يقتضي محبوبية هذا العمل وأنه مما أمر الله تعالى به وأنه يكفي في مقام امتثال أمر الله "عز وجل" (تتجفا جنوبهم عن المضاجع يعني جنب الإنسان عادة يميل إلى النوم أهل صلاة الليل تتجافى يعني تبتعد جنوبهم عن المضاجع عن السرير يدعون ربهم خوفا وطمعا) الآية في مقام المدح بل هناك آمر وأدعوه خوفهم وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين.
الدليل الثالث قد ورد عن المعصومين ما يدل على صحة العبادة إذا كانت ناشئة من خوف أو طمع.
إلى هنا اتضح أن أكثر الناس يستطيعون أن يأتوا بعبادة العبيد أو عبادة التجار وأما عبادة الأحرار فليس إلا للمعصومين "عليهم أفضل صلوات المصلين" نرجع إلى سورة الحمد بعد أن ذكرنا العبادات الثلاث عبادات الأحرار وعبادة العبيد وعبادة التجار، سورة الحمد أشارت إلى النكات الثلاث التي هي منشأ هذه العبادات الثلاث.
أولا أشارت سورة الحمد إلى كمال الله الذاتي وأنه رب العالمين مالك يوم الدين فمع كمال المعبود واستحقاقه العبادة بذاته تنشأ عبادة الأحرار فالأحرار يعبدون الله لكماله الذاتي واستحقاقه وحده للعبادة وهذه النكتة موجودة في سورة الحمد.
النكتة الثانية منشأ عبادة التجار إدراك الإنسان لإنعام المعبود وإحسانه وطمعه في ذلك وهذا ما أشارت إليه الآية رب العالمين الرحمن الرحيم.
والنكتة الثالثة منشأ عبادة العبيد إدراك الإنسان لسطوة الله وقهره وعقابه وهذا ما أشارت الآية مالك يوم الدين إذن هناك نكات ثلاث تشير إلى العبادات الثلاث.
حصر الاستعانة بالله "عز وجل"
هل تجوز الاستعانة بغير الله أو لا؟ من الواضح أنه لا مانع من الاستعانة، استعانة الإنسان في مقاصده بغير الله من المخلوقات أو الأفعال كل الناس تستعين الزوج يستعين بزوجته الأب يستعين بولده بل القرآن يشير إلى ذلك قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) (وتعاونوا على البر والتقوى) قال (ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة) إذن ما المراد بالاستعانة المحصورة في قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين).
ليس المراد هو مطلق الاستعانة ليس المراد أن مطلق الاستعانة تنحصر بالله "عز وجل" هذا خلاف الضرورة بل المراد بالاستعانة المنحصرة بالله استمداد القدرة على العبادة منه تعالى يعني أنا لا استطيع أن أعبدك إلا بالاستعانة بك وهذا هو وجه تقديم إياك نعبد وعلى وإياك نستعين يعني إياك نعبد ولكي نعبدك لابد أن نستعين بك لكي نقدر على عبادتك وهذا بحث أنه لا جبر ولا تفويض وإنما أمر بين أمرين وذكرنا فيما سبق أنه لو كانت سيارة ليس فيها بنزين أو تتحرك في الكهرباء وأنت تمسك المقود إذا لم أدفعها أو لم تتصل بالكهرباء لا تتحرك فإذن أصل القدرة على الحركة يكون من الكهرباء أو من الدفع ولكن إذا تم الدفع أو اتصلت بالكهرباء فإن حركة السيارة يمينا وشمالا تستند إلى العبد فهذا العبد ليس مجبرا على الذهاب يمينا وشمالا كما أنه ليس مفوضا تفويض مطلقا إذ أنه من دون وجود أصل القدرة لا يستطيع أن يذهب يمينا وشمالا.
وهكذا في المثال الآخر الذي ذكره السيد الخوئي في بعض أبحاثه أنه لو كان شخص مشلول لا يستطيع أن يحرك يده ولكن يوجد جهاز إذا اتصل باليد استطاع هذا الإنسان أن يحرك يده فإن حركة اليد تستند إلى الجهاز وإلى الشخص، تستند إلى الجهاز في أصل القدرة على تحريك اليد وتستند إلى الشخص في وجه حركة هذه اليد إما أن يضرب الناس وإما أن يعين الناس فكذلك الإنسان، الإنسان ليس مجبرا على فعله بحيث تسلب منه القدرة بالكامل وليس مفوضا بحيث أن الله "عز وجل" لا يخلق هذا الفعل ويخلقه خصوص ذلك الإنسان إذن المراد بالاستعانة بالله استمداد القدرة على العبادة من الله "عز وجل" وطلب المزيد من التوفيق حتى يعبد الإنسان الله حق عبادته.
وفي هذا إثبات أن العبد في أفعاله الاختيارية وسط بين الجبر والتفويض فلا هو مجبور ولا هو مفوض فإن الفعل يصدر عن العبد باختياره ولذلك اسند الفعل إلى في قوله تعالى إياك نعبد إلا أن هذا الفعل الاختياري من العبد إنما يكون بعون الله وإمداده إياه بالقدرة آنا فآنا لحظة لحظة يعني الإنسان بحاجة إلى استمداد القدرة من الله ابتداء واستمراراً حدوثا وبقاء يعني بحاجة إلى أفاضة أصل القدرة في كل آن آن عطاء غير مجذوذ بحيث لو انقطع المدد عنه لم يستطع إتمام الفعل ولم تصدر منه عبادة ولا حسنة هذا هو القول الذي يقتضي محض الإيمان إذن الجبر له لازم باطل والتفويض له لازم باطل فإن الجبر يلزم منه أن يكون العقاب على المعاصي عقابا للعبد من غير استحقاق وهذا ظلم واضح وبين إذا كان مجبور على فعل كيف يعاقبه رب العالمين سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا والتفويض يلزم منه لازم باطل وهو تعدد الخالق لأن التفويض يعني الله "عز وجل" فوض له أن يخلق الأشياء ولا يتدخل رب العالمين فيما يخلق هذا الإنسان فيلزم من التفويض القول بوجود خالق آخر غير الله "عز وجل" فيكون العبد مستقل في أفعاله وأنه خالق لهذه الأفعال ومرجع هذا إلى تعدد الخالق وهذا شرك بالله العظيم.
والإيمان بالله هو الحد الوسط بين الإفراط والتفريط فإن الفعل فعل للعبد وهو فاعله باختياره لذلك استحق عليه الثواب أو العقاب والله سبحانه وتعالى هو الذي يفيض على العبد أصل القدرة كما يفيض عليه أصل الحياة يفيض عليه أصل القدرة وغيرهما من المبادئ أفاضة مستمرة غير منقطعة لأن الممكن فقير وفقره ذاتي فهو بحاجة إلى الحياة والقدرة ابتداء واستمراراً حدوثاً وبقاءً هذه هي الاستعانة المنحصرة بالله "عز وجل" فلولا الإفاضة الإلهية لما وجد فعل من الأفعال ولو تظاهرت الجن أو الإنس.
ثم يشير إلى مطلب مهم وهو أمران:
الأمر الأول الممكن غير مستقل في وجوده هو وجوده متعلق بالله "عز وجل" الممكن غير مستقل في وجوده وجوده مرتبط بالله "عز وجل".
الأمر الثاني إذا كان الممكن غير مستقل في وجوده فكيف يستقل في إيجاد غيره هو في نفسه غير مستقل فكيف يستقل في إيجاد الأفعال والأشياء الأخرى فاقد الشيء لا يعطيه هو في أصل وجوده غير مستقل في أصل وجوده يحتاج إلى الله "عز وجل" فكيف يستقل في أفعاله من دون فيض الله تبارك وتعالى ومن هنا يظهر الوجه في تأخير جملة إياك نستعين عن قوله إياك نعبد فإن حصر العبادة بذاته أولا فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله ثم أبان لهم أن عباداتهم التي تصدر منهم إنما تصدر بالاستعانة بالله تبارك وتعالى فالعبد رهن إفاضة الله ومشيئة الله والله أولى بحسنات العبد من نفسه كما أن العبد أولى بسيئاته من الله.
الشفاعة
تدل الآيات المباركات على أن الله "عز وجل" هو الكافل بأمور عبيده وأن كل الأمور بيد الله "عز وجل" يدبر شؤون العبيد ويوجه عبيده إلى كمالهم المنشود وهو قريب من عبده يسمع ندائه ويجيب دعائه قال تعالى (أليس الله بكاف عبده وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) بناء على هذا ليس لمخلوق أن يشفع لمخلوق آخر وليس لمخلوق أن يجعل نفسه واسطة بينه وبين ربه رب العالمين ما يحتاج إلى وساطة هذا تبعيد للمسافة بل وفيه إظهار للحاجة لغير الله وماذا يصنع المحتاج بمثله المحتاج وماذا ينتفع العاصي بشفاعة من لا ولاية له ولا سلطان بل لله الأمر من قبل ومن بعد (قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض).
إذن الأصل الأولي الشفاعة لا تكون إلا لله ولكن إذا أذن مثل السجود لا يجوز السجود لغير الله إلا إذا أمر بالسجود لغيره فيكون السجود لغيره طاعة لله كذلك لا تكون الشفاعة لغير الله إلا إذا أمر الله "عز وجل" بالشفاعة وأذن بالشفاعة فتجوز حينئذ الشفاعة إذا لم تكن الشفاعة بإذن الله لا تجوز هذه الشفاعة وأما إذا أذن الله بالشفاعة لأحد فإن الاستشفاع به يكون نحو من الخضوع لله والتعبد لله ويستفاد من القرآن الكريم أن مجموعة قد أذن الله لهم بالشفاعة إلا أن القرآن الكريم لم ينص على أي منهم إلا النبي محمد "صلى الله عليه وآله" قال تعالى (ولا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول هنا النص لوجدوا الله توابا رحيما).
هذا بالنسبة إلى القرآن وأما الروايات الواردة عن النبي الأكرم والأئمة فهي متواترة في شفاعة النبي "صلى الله عليه وآله" الرواية تقول عن النبي "صلى الله عليه وآله" (إنما ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) طبعا الشهداء يشفعون العلماء يشفعون ذو الحقوق يشفعون، أحاديث الشفاعة عند الإمامية بالروايات في الشفاعة من طرق الإمامية كثيرة أكثر من أن تحصى وأمر الشفاعة عند الإمامية من أوضح الواضحات ولذلك نكتفي بذكر رواية.
روى البرقي في المحاسن بإسناده عن معاوية بن وهب قال سألت أبا عبد الله "عليه السلام" الإمام الصادق عن قول الله تبارك وتعالى (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا قال الصادق "عليه السلام" نحن والله المأذون لهم في ذلك والقائلون صوابا قلت جعلت فداك وما تقولون إذا تكلمتم قال نمجد ربنا ونصلي على نبينا ونشفع لشيعتنا فلا يردنا ربنا).
روى الشيخ الكليني محمد بن يعقوب في الكافي نفس هذه الرواية بإسناده عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي مثله أحاديث الشفاعة عند العامة وأما الروايات من طرق أهل السنة فهي أيضا كثيرة متواترة نتعرض لذكر بعضها:
الأولى روى يزيد الفقير قال أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي "صلى الله عليه وآله" قال (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة).
الرواية الثانية روى أنس بن مالك قال قال النبي "صلى الله عليه وآله" (أنا أول شفيع في الجنة).
الرواية الثالثة روى أبو هريرة قال، قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" (لكل نبي دعوى وردت إن شاء الله أخبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).
الرواية الرابعة وروى أيضا قال، قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع).
الرواية الخامسة وروى أيضا كلها عن أبو هريرة قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" (الشفعاء خمسة القرآن والرحم والأمانة ونبيكم وأهل بيته).
الرواية السادسة روى عبد الله بن أبي الجدعاء قال، قال رسول الله "صلى الله عليه وآله" (يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم) ورواه الترمذي والحاكم كل هذه عن كثرة بني تميم.
هذه الروايات يستكشف منها أن الاستشفاع بالنبي وأهل بيته الكرام أمر ندب إليه الشرع وإلا لا معنى للنص على الشفاعة من دون أن تكون الشفاعة مندوبة فكيف تعد الشفاعة من الشرك عصمنا الله من متابعة الهوى وزلل الأقدام والأقلام، الأمر الرابع تحليل آية أهدنا الصراط المستقيم يأتي عليها الكلام.
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

00:00

07

2023
| مايو
جلسات أخرى من هذه الدورة 84 الجلسة

07

مايو | 2023
  • الكتاب: البيان في تفسير القرآن
  • الجزء

    -

  • 500

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
84 الجلسة