المقامات العلية
شیخ الدقاق

14 - الصفة الثانية الأمن من مكر الله

المقامات العلية

  • الكتاب: المقامات العلية في موجبات السعادة الأبدية
  • الجزء

    -

  • الصفحة  

    200

10

2024 | أكتوبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 الأمن من مكر الله

الصفة الثانية الأمن من مكر الله.

كان الكلام في المقام الثالث، وقد تطرق المحدث الشيخ عباس القمي رحمه الله في كتابه المقامات العلية في موجبات السعادة الأبدية في المقام الثالث إلى الصفات الرذيلة والأخلاق الحميدة المتعلقة بالقوة الغضبية، والغضب حدٌ وساط بين التهور والجبن، التهور إفراط في القوة الغضبية، الجبن تفريط في القوة الغضبية.

ثم تطرق الشيخ عباس القمي صاحب مفاتيح الجنان رحمه الله إلى الرذائل المتعلقة بالقوة الغضبية، فهذه الرذائل إما أن ترجع إلى جانب الإفراط وهو التهور أو إلى جانب التفريط وهو الجبن، أول صفة رذيلة تطرق لها الشيخ عباس القمي هي صفة الخوف.

سؤال: الخوف يرجع إلى جانب الإفراط وهو التهور أو إلى جانب التفريط وهو الجبن؟

والجواب: الخوف يرجع إلى جانب التفريط إلى جانب الجبن.

نسأل نفس هذا السؤال بالنسبة إلى الصفة الثانية التي هي بحث اليوم «الأمن من مكر الله» يعني عدم الخوف من الله، ما يقابل الأمن من مكر الله الخوف من الله، إما يخاف من مكر الله وعذاب الله، وإما يأمن مكر الله وعذاب الله.

سؤال: الأمن من مكر الله مرجعه إلى التهور أو الجبن؟

الجواب: مرجعه إلى التهور.

إذاً الصفة الرذيلة الأولى الخوف مرجعها إلى جانب التفريط وهو الجبن، والصفة الثانية وهي الأمن من مكر الله مرجعها إلى جانب الإفراط وهو التهور أي إطلاق العنان للقوة الغضبية وعدم وضعها في موضعها، فإذا وضعت القوة الغضبية في موضعها أصبحت شجاعة.

إذاً ما المراد بالأمن من مكر الله؟

والجواب: عدم خوف الإنسان من الله، ومن العذاب.

فما هو سبب الأمن من مكر الله؟ وقبل ذلك: ماذا يشكل هذا الذنب؟ وما هي درجته بين الذنوب؟

والجواب: أكبر الكبائر الشرك بالله ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ثاني أكبر الكبائر اليأس من روح الله تيأس من رحمة الله، وثالث أكبر الكبائر الأمن من مكر الله، يقولون: المؤمن بين الخوف والرجاء حالة توازن يخاف من نار جهنم ويرجو دخول الجنة، يرجو رحمة الله ويخاف من عذاب الله، حالة توازن، المؤمن بين الخوف والرجاء.

فإذا زاد جانب الرجاء تحقق الأمن من مكر الله، وإذا زاد جانب الخوف تحقق اليأس من روح الله، هذه معادلة مضبوطة، الشيء إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده، تخاف ضمن ميزان، ترجو ضمن ميزان، إذا زاد الخوف عن الحد تحول إلى يأس، تيأس من رحمة الله، وإذا زاد الرجاء عن الحد تحول إلى الأمن من مكر الله.

إلى هنا عرفنا أن الأمن من مكر الله هو ثالث الذنوب الكبيرة.

سؤال: ما هو سبب الأمن من مكر الله؟

تشوفوا واحد ما يخاف الله أبداً شيقولون السوريين واللبنانيين «ما عنده شقفة ضمير»، فما هي أسباب الأمن من مكر الله؟

تطرف المحدث القمي إلى أربعة أسباب، ثم ارجع الأربعة أسباب إلى أربعة أسباب، لاحظ دقيق الشيخ عباس القمي، عميق.

السبب الأول الغفلة عن عظمة الله، يؤمن بوجود الله لكن يغفل عن حضور الله، لذلك يقول الإمام الخميني رضوان الله عليه : «العالم محضر الله فلا تعصوا الله في محضره» كثير من الذي يعصون يغفل أن «ألم يعلم بأن الله يرى» يغفل عن عظمة الله، يغفل عن أن الله عزّ وجل يراه ومطلع على فؤاده، هذا السبب الأول.

السبب الثاني عدم الاعتقاد بـيوم الجزاء لا يعتقد بالله ملحد، أو يعتقد بالله لكن لا يعتقد بـيوم القيامة «إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر».

السبب الثالث الاطمئنان إلى سعة رحمة الله، هذا خلاف السبب الأول والثاني، السبب الأول يغفل عن عظمة الله، السبب الثاني ينكر وجود الله أو ينكر المعاد، السبب الثالث يؤمن بالله، لكن يطمئن إلى سعة رحمة الله، يسرق، لماذا تسرق؟ الله غفور رحيم، يكذب، لماذا تكذب؟ كذبة بيضة، الله غفور رحيم، رحمته واسعة.

السبب الرابع الاعتماد على طاعاته وعباداته، يقول: «أنا عبدة الله دهر بعد ما يدخلني النار» يعتد بنفسه، يعتد بطاعاته وعباداته.

هذه أسباب أربعة للأمن من مكر الله، وهذه الأسباب الأربعة مرجعها لأسباب أربعة، وهي: «الجهل أو الكفر أو الغرور أو العجب» لاحظ الأسباب الأربعة:

السبب الأول الغفلة عن عظمة الرب، وهذه منشأها إلى الجهل بالذات الإلهية.

السبب الثاني عدم الاعتقاد بـيوم الجزاء ومرجعه إلى الكفر.

السبب الثالث الاطمئنان إلى سعة رحمة الله، وهذه منشأها الغرور يغتر برحمة الله.

السبب الرابع الاعتماد على طاعته وعباداته، وهذه مرجعها إلى العجب، أن يعجب بأعماله.

هذه الأسباب الأربعة تقود إلى الخسران قال تعالى: ﴿فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

نقرأ هذا المقدار ثم ننطلق إلى نقطة أخرى مهمة جداً.

قال المحدث القمي رحمه الله :

«الصفة الثانية الأمن من مكر الله، ويعني عدم خوف الإنسان من العذاب والامتحان الإلهي، وعدم التفكر في عظمة وجلال ذي الجلال» وهو الله عزّ وجل «والسبب هو إما الغفلة عن عظمة الربّ أو عدم الاعتقاد بـيوم الجزاء أو الاطمئنان إلى سعة رحمة الله أو الاعتماد على طاعاته وعباداته هذه الصفة» أي الأمن من مكر الله «من أين منها نشأت» من هذه الأسباب الأربعة «فهي من المهلكات وموجبات الخسران، لأن الباعث عليها إما الجهل أو الكفر أو الغرور أو العجب، وكل منها» هذه الصفات الأربع: «الجهل والكفر والغرور والعجب» «طريق يوصل الإنسان إلى الهلاك، والآيات، والأخبار في هذه الصفة كثيرة.

يقول الحق تعالى: ﴿فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون»[1].

وقد وردت أخبار كثيرة في أن الملائكة والأنبياء عليهم السلام يخافون المكر الإلهي، أوحى الله عزّ وجل إلى موسى عليه السلام : يا موسى ائت لمناجاتي وأصحب معك مخلوقاً أنت أفضل منه، فتأمل موسى عليه السلام في البشر، فقال: لعل هذا جاء بعملٍ خفي عليّ فهو أفضل مني، فلم يستطع أن يصحب إنساناً، والتفت إلى كلب عقوب، قال: هذا نجس العين أصحابه معي، فصحبه، وفي الطريق قال: لعلل الكلب وفى وأصبح أفضل منه، فترك الكلب.

فلما جاء للمناجاة، جاءه النداء: يا موسى! لم تأتي بمن أنت أفضل منه؟

فقال: يا ربِّ لم أجد من أنا أفضل منه.

فقيل له: وأين الكلب؟

فقال: تأملت، وقلت: لعل هذا الكلب جاء بشيء وصار أفضل مني.

فجاءه النداء والجواب: يا موسى! لو جئت بالكلب لمناجاتي لمحوتك من ديوان النبوة.

امتحان من الله عزّ وجل، نفس الإنسان يعتقد داخل نفسه أنه أفضل من هذا الكلب، وأفضل من هذا، وأفضل من هذا، يغويه إبليس يوقع في مهلكة.

إذاً بحثنا في الأمن من مكر الله، وضد هذه الصفة المذمومة الخوف من الله، وهو على ثلاثة أنواع:

النوع الأول أن يخاف من عظمة الله وجلال الله.

النوع الثاني أن يخاف من ذنوبه.

النوع الثالث أن يخاف من عظمة الله ومن ذنوبه.

ولا شك ولا ريب إن الإنسان على قدر معرفته، هذه معادلة يذكرون حتى في العلوم الحديثة، تريد تقيم نفسك؟ أنت رهن أفكارك.

لاحظ هذه المعادلة: أفكارك الذهنية تصوغ عباراتك اللفظية، وعباراتك اللفظية تصنع واقعك الفعلي، التفكير الداخلي والذهني أنت إذا تفكر في أشياء هذه تطلع على لسانك، قوالبك اللفظية تشير إلى تفكيرك الداخلي، قوالبك اللفظية الخارجية تعكس تفكيرك الذهني الداخلي، والقوالب اللفظية هي مقدمة لمشروع عمل ميداني وعملي.

إذاً التفكير جداً مهم، لذلك أنت تصنع سعادتك بنفسك، وأنت بنفسك تحطم نفسك، إذا تنشغل بأفكار هدامة تنهدم، إذا تلهم نفسك السعادة حتى إذا يوم أنت تعبان، ألهم نفسك وقل: أنا سعيد، فكر في أمور إيجابية، ستنتعش وستصبح سعيداً.

إذاً الأفكار لها أثرٌ كبير، خصوصاً إذا كانت عن معرفة، كلما عرف الإنسان الله عزّ وجل أكثر كلما خشي أكثر، كلما أيضاً عرف عظم ذنوبه أكثر زاد خوفه أكثر، فمنشأ عدم الخوف من الله الجهل بعظمة الله وعظمة آثار هذه الذنوب.

قال: «ضد هذه الصفة المذمومة الخوف من الله، وهو على ثلاثة أنواع: الخوف من عظمة الله وجلال الله المتعال، والخوف من المعاصي والتقصير، والخوف من كليهما معاً من الله ومن الذنوب، لا شبهة في أنه بقدر ما تزداد معرفة العبد بعظمة وجلال ربه، وبقدر ما يكون عارفاً بعيوبه يزداد خوفه من الله أكثر.

ومن هذه الجهة نسب الحق تعالى الخوف إلى العلماء، في قوله تعالى: ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء» العلماء فاعل، لماذا يخشون؟ لمعرفتهم، المقتضي متوفر عندهم، وهي «المعرفة».

وقال رسول الله أبو القاسم محمد: «أنا أخوفكم لله».

وفي جامع الأخبار[2]: «من كان بالله عارفاً، كان من الله أخوف».

لذلك تجد أمير المؤمنين كيف تتغير ألوانه في الصلاة، والإمام السجاد كيف ترتعد فرائصه عند الوضوء، «أتدرون بين يدي من أقوم».

«وإن لم تر خوف الأنبياء والمقربين، فقد سمعت حكايات وحالات الإغماء المتتالية لأمير المؤمنين عليه السلام ، وسببها كما لمعرفتهم بالله عزّ وجل، لأن المعرفة الكاملة تؤثر في القلب، فتلهبه وتجعله يضطرب، فيسري أثرها من القلب إلى البدن، فتجعل البدن ضعيفاً ونحيفاً، والوجه مصفراً، والعين باكية».

رحمة الله على سماحة آية الله الشيخ يحيى الأنصاري هذا من علماء همدان، وكان ضد العرفان، في يوم من الأيام سماع أن هناك حلقة دراسية في العرفان، فذهب ليزجرهم ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر.

ذهب الشيخ يحيى الأنصاري رضوان الله عليه إلى جلسة كانت في المقبرة، وقد تحلقت الحلقة حول هذا هو الأستاذ والمرشد، ما إن وصل الشيخ يحيى الأنصاري شرع في وعظهم وثنيهم عن العرفان وهذه الخزعبلات، وتكلم مدة ساعة كاملة.

والأستاذ ساكت، والطلبة صامتون، وبعد أن أنهى الشيخ يحيى الأنصاري كلمته ووعظه وإرشاده، التفت الأستاذ وكان من أهل المعرفة الحقيقيين، نظر إلى الشيخ يحيى الأنصاري نظرة، وتكلم بكلمة، وبعد هذه الكلمة تحول كيان الشيخ يحيى الأنصاري بالكامل، وأصبح من أهل الذوق، لأنه تذوق حلاوة حبّ الله تبارك وتعالى، وأصبح من كبار العرفاء، ودائم البكاء، تغيرت ألوانه، فرائصه.

يقول ولده نقلته إلى طهران لعلاجه إلى متخصص في القلب حاذق، فلما فحصه طبيب القلب، قال: أبوك قد احترق قلبه، أراه مسوداً، ولكن ما أدري؟! ما الحب الذي أحرق قلب أبيك؟!

فلما خرج الشيخ يحيى الأنصاري قال: ما أحذق هذا الطبيب! لقد أصاب حينما قال: إن القلب محروق، لكن لم يدرك علة الاحتراق.

وتوفي ودفن في قم، في گلزار علي بن جعفر، گلزار شهداء، قرب قبر مقام علي بن جعفر هناك قبر العارف الكبير الشيخ يحيى الأنصاري الهمداني.

ذق ما أذق وبعدها قل ما تشاء من الفضول

عموماً الخوف والرجاء لا يتجاوز عن حده فإنه سينقلب إلى ضده، الخوف إذا زاد عن حده يتولد إلى يأس من روح الله، والرجاء إذا زاد عن حده يتحول إلى الأمن من مكر الله.

قال الشيخ عباس القمي:

«ولا يخفى أن الخوف يكون ممدوحاً عندما لا يتجاوز عن حده المطلوب، وإلا كان مذموماً، وكثيراً ما ينجر ـ هذا الخوف ـ إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، وهذا هو حد الضلال والكفر».

يوم من الأيام الحسن البصري كان يقول: «العجب كل العجب ممن نجى كيف نجى؟!»، فقال له الإمام السجاد عليه السلام : «العجب كل العجب ممن هلك كيف هلك؟!» يعني أمام رحمة الله عجب هذا كيف يهلك!

«ولقد قال العلماء: إن الخوف من الله بمنزلة السوط» يا الله! لاحظ التعبير الدقيق، السوط إذا تضرب الولد والعبد ضربة خفيفة ما يفيد يتمرد، إذا تضربه ضربة عنيفة قد تميته وقد تقتله وقد تجرحه، إذاً الصوت لا بد بحد هذا الحد ليس ضعيفاً لا يؤثر فيؤدي إلى التمرد وليس عنيفاً قد يؤدي إلى الموت.

«ولقد قال العلماء: إن الخوف من الله بمنزلة السوط الذي يسوق العباد إلى المواظبة على العلم والعمل والطاعة والعبادة، وكالسوط الذي يؤدب به الأطفال الذي يكون قليله بلا ثمرة وكثيره مهلك».

ثم يتطرق الشيخ القمي إلى الأمور التي توجب تحقق صفة الخوف، لأن الأمن من مكر الله ضده الخوف من الله، كيف يتحصل الإنسان على الخوف، بأربعة أمور.

قال: ½ويجب أن يعلم أن تحصيل صفة الخوف يتم بأربعة طرق»، يأتي عليها الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  سورة الأعراف، آية 99.

[2]  ص 113.

00:00

10

2024
| أكتوبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 19 الجلسة

10

أكتوبر | 2024
  • الكتاب: المقامات العلية في موجبات السعادة الأبدية
  • الجزء

    -

  • 200

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
19 الجلسة