خارج الفقه (الجهاد)
شیخ الدقاق

03 - سنخ وجوب الجهاد

خارج الفقه (الجهاد)

  • الكتاب: كتاب الجهاد
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

10

2024 | أكتوبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الدرس (الثالث): سنخ الجهاد

الأمر الثالث سنخ وجوب الجهاد، فهل الجهاد واجب بالوجوب العيني أو واجب بالوجوب الكفائي؟

أطبقت كلمات الفقهاء على أن وجوب الجهاد بقسميه: الابتدائي والدفاعي، من سنخ الوجوب الكفائي في مقابل الوجوب العيني الذي يثبت على عين كل فرد.

ولنقرأ كلمة لشيخ الطائفة الطوسي من الشيعة وكلمة لابن رشد من العامة.

قال الشيخ الطوسي في كتاب المبسوط، والذي هو أول كتاب شيعي تفريعي ما نصّه:

«الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وعليه إجماع، وأيضاً قال الله تعالى: ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً»[1].

يقول الشيخ الطوسي: «فـفاضل بين المجاهدين والقاعدين ولو كان فرضاً على الأعيان لكان من تركه عاصياً ولم تصح المفاضلة» ثم قال: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ»[2].

وقال ابن رشد في بداية المجتهد ما نصّه:

«فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرضٌ على الكفاية لا فرض عين»[3].

إذاً توجد دعوى الإجماع على أن الجهاد واجبٌ كفائي بقسميه، والمراد بالواجب الكفائي هو الواجب الذي إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر، وإذا تركه الجميع استحقوا العقاب جميعاً، كـتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه، فإذا قام به البعض سقط عن بقية المكلفين، وإذا تركه الجميع استحقوا العقاب جميعاً.

فالجهاد واجبٌ كفائي على الإجماع، ولكن على الرغم من دعوى الإجماع توجد بعض الآراء المخالفة لكون الجهاد واجباً كفائياً، ولنتطرق إلى بعض هذه الآراء:

الرأي الأول ظاهر الرياض للسيد علي الطباطبائي، اختصاص الجهاد الابتدائي بالكفائية، وإذا أردنا أن ندقق ونحقق في كلامه فسنجد أن المختص بالكفائية في كلام السيد على الطباطبائي صاحب رياض المسائل هو خصوص جهاد المشركين من الابتدائي دون قتال الباغي.

فالسيد الطباطبائي في الرياض عرف الجهاد بأنواعه الأربعة، وهي: جهاد المشركين، وجهاد الباغين، وهما قسما الجهاد الابتدائي، وجهاد من يدهم بلاد المسلمين وهو جهاد دفاعي، وجهاد من يريد قتل نفس محترمة، وهذا يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم قال قدس سره ما نصّه:

«والجهاد بالمعنى الأول فرضٌ كفائي على من استكمل الشروط» والمراد بالمعنى الأول جهاد المشركين من الجهاد الابتدائي، ولعله يستظهر من تنصيصه على أن الأول فرض كفاية، قد يستظهر عينية الجهاد في بقية الأقسام الثلاثة، على تأملٍ[4].

وهذا الكلام ليس بتام إذ أن الظاهر من أدلة وجوب الجهاد أن الوجوب على الكفاية، وسيأتي بحثها إن شاء الله تعالى.

الرأي الثاني استحباب الجهاد.

نقله ابن رشد في بداية المجتهد، قال في ذيل كلامه المتقدم:

«إلا عن عبد الله بن الحسن، فإنه قال: «إنها تطوع»»[5].

وهو كما ترى لا داعي لمناقشته، وسيتضح إن شاء الله عندما نتطرق إلى أدلة وجوب الجهاد بالتفصيل.

الرأي الثالث وجوب الجهاد على الأعيان أي أن الجهاد واجب عيني وليس واجباً كفائياً، ذهب إليه قومٌ، منهم سعيد بن المسيب على ما حكاه الشيخ الطوسي في الخلاف[6]، والسيد ابن زهرة في الغنية[7]، والمقداد السيوري[8].

فالجهاد على هذا المذهب واجبٌ عيناً، ومفروض على جميع المكلفين، ولا يسقط عن بعضهم بامتثال البعض الآخر، بل لا بدّ لكل فرد من امتثالٍ مستقلٍ خاصٍ به سواء امتثل الآخرون أم لم يمتثلوا، لأن غرض المولى سبحانه وتعالى تحقيق مصلحة من التكليف لا تتحقق إلا بامتثال كل فردٍ فردٍ من المكلفين، كما هو الحال بالنسبة إلى وجوب الصلاة اليومية، ووجوب صوم شهر رمضان، الواجبين على أعيان المكلفين.

وقد استدل على وجوب الجهاد بالوجوب العيني بأمرين:

الأمر الأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه قال: «من مات ولم يغزو، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من نفاق»[9].

وفيه إنه غير دال على عينية الوجوب لأن ظاهر الحديث الشريف أن على المسلم إذا لم يغزو فعلاً أن يحدث نفسه بالغزو، أن يكون على استعداد نفسي ونفساني للقتال في سبيل الله، إذا دعت الحاجة ولم يسد أحد مسده، وهذا غير الوجوب العيني، إذ لا كلام في أن الجهاد واجب على جميع المسلمين، إنما الكلام فيما إذا قام به من به الكفاية، فهل يبقى هذا الوجوب أو يسقط؟

ونحن ندعي أنه يسقط لأن الجهاد واجبٌ بالوجوب الكفائي، فالرواية أجنبية، وهي ناظرة إلى الاستعداد للقتال والجهاد في سبيل الله وتهيئة النفس على ذلك، وليست ناظرة إلى إثبات الوجوب على أعيان المسلمين المكلفين.

الأمر الثاني استدل بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِأَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ ٱلْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ[10].

تقريب الاستدلال:

دلت الآية الكريمة على تحريم التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله فيجب على جميع أهل المدينة أن يخرجوا مع النبي للجهاد، ولا يجوز لأي مكلفٍ منهم أن يتخلف عن اللحاق بركبه في القتال، ويستفاد من قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ أنه ليس لهم في شرع الله تعالى أن يتخلفوا.

وفيه: إن الآية الكريمة نزلت في غزوة تبوك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن التخلف عنها وأمر باللحاق به فيها، فتخلف عنه المنافقون وبعض من تأثروا بهم من المسلمين، وهذا خارج عن محل الكلام إذ أن الآية ناظرة إلى واقعة خاصة، ولا شك أن ولي أمر المسلمين إذا أمر الجميع بالنفر ونهى الجميع عن التخلف فإنه يحرم عليهم التخلف عن ركبه، ويكون التخلف عن ولي الأمر لا لعذر كمرض، ولا لإذنٍ معصية يستحق فاعلها العقاب.

والدليل على أن الآية الكريمة ليست على إطلاقها ما جاء في الآية التالية لها، وهي قرينة على الآية السابقة، إذ جاء فيها ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً حيث دلت على عدم التعيين على الجميع.

ويمكن أن يجمع بينما استدل به على العينية والكفائية بهذا الجمع، فيقال: إنما يوهم ظاهره الوجوب العيني يراد منه الوجوب في مرحلة الاقتضاء لا الفعلية في حالة قيام من به الكفاية، فإن كل مكلفٍ تجتمع فيه شرائط الوجوب يجب عليه الجهاد في مرحلة الاقتضاء والشأنية، أي من شأنه أن يتعلق به الوجوب.

ولكن في مقام الامتثال فإن الجهاد يكون واجباً على الجميع بنحو الكفاية.

هذا هو الجمع الأول بين ما ظاهره بالعين والوجوب الكفائي بأن نحمل ما ظاهره الوجوب العيني على الشأنية والقابلية والاقتضاء، ونحمل ما يفهم منه الكفاية على الامتثال والفعلية.

الحمل الثانية نحمل ما ظاهره العينية على أصل المشروعية للجميع، حتى في حال قيام من به الكفاية، فما يظهر منه العينية نحمله على أصل مشروعية الجهاد.

وكيف كان لا ريب ولا شك في عدم صحة وجوب الجهاد بالوجوب العيني بالمعنى المصطلح، وسيأتي إن شاء الله تعميق لهذه المسألة أكثر في الأبحاث القادمة.

[انقلاب الواجب الكفائي إلى الواجب العيني]

صرح الفقهاء القائلون بأن الجهاد واجب بالوجوب الكفاية إلى أنه قد يصير واجباً بالوجوب العيني بالعرض، فالأصل في الجهاد أنه واجب كفائي، ولكن بالعرض قد يصبح واجباً عينياً، وذكروا عدة أسباب، نذكر منها سبعة على تأمل في بعضها.

السبب الأول إذا أمر ولي الأمر شخصاً بعينه أو جماعة بعينها بالجهاد لخصوصية فيهم من خبرة في الحرب وما يتصل بشؤونها فحينئذ يجب عليه الجهاد عيناً، وإن كان عدد القائمين بالجهاد يحقق الكفاية، ففي هذه الحالة يتعين الجهاد على من عينه عليه ولي الأمر.

رحمة الله على الإمام الخميني رضوان الله عليه لما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران جاءت طائرة كاملة من لبنان لتهنئة الإمام الخميني بانتصار الثورة، فلما أرادوا الرجوع وكان معهم الشهيد چمران، الإمام الخميني أخذه إلى جنب، وقال له: «أنت تبقى هنا، ولا ترجع، وتشكل الحرس الثوري» فحينئذ يجب عليه بالوجوب العيني، وفعلاً شكل الحرس الثوري، وأصبح وزير الدفاع.

السبب الثاني إذا عينه المكلف على نفسه بنذرٍ أو عهدٍ أو يمينٍ، وهذه مسألة عامة في التعيين، التعيين بنذر.

السبب الثالث إذا آجر نفسه للجهاد، فإنه يتعين عليه لوجوب الوفاء بالعام، وهذه المسألة فيها خلاف، فهل يصح الإيجار على الجهاد وأخذ الأجرة عليه؟ خصوصاً إذا وجب عليه الجهاد، وهذا هو فرض المسألة أنه وجب عليه الجهاد بالوجوب الكفائي، فهل يجوز له أن يؤجر نفسه، ويأخذ الأجرة على القتال والجهاد في سبيل الله؟

هذا يبحث في مسألة أخذ الأجرة على الواجبات، والمشهور بين الفقهاء عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات، ولكن هناك من الفقهاء المعاصرين من يرى جواز أخذ الأجرة على الواجبات كـالسيد محمد صادق الروحاني صاحب كتاب «فقه الصادق» رحمه الله أنا سمعته منه، كنت أناقشه، وكان بنائي أنه رأيه رأي المشهور، فقال: نحن نرى جواز أخذ الأجرة على الواجبات، فسكت رحمة الله عليه رحمة الله على علمائنا.

السبب الرابع إذا دهم عدو، ولم يقدر بعضهم على دفعه، واقتضى دفعه مشاركة في الحرب، فلا شك في أن الجهاد يجب حينئذ على الجميع، يتعين عليهم كلهم، هذا ضمن الواجب الكفاية أصلاً لأنه لم يتحقق ما به الكفاية إلا بتمام الأعيان.

السبب الخامس ذكر العلامة الحلي في تحرير الأحكام سبباً آخر لتعين الوجوب، وهو: إذا التقى الصفان، وتقابل الزحفان، المعبر عنه في زماننا هذا بـفتح النيران، فتح خط إطلاق النار، وهو الظاهر من القاضي ابن البراج[11].

ولا نعرف وجهً لاعتبار الوجوب تعييني في هذه الحالة إلا من أحد احتمالين:

الاحتمال الأول من جهة حرمة إبطال العمل، ما دام هو شرع في العمل يحرم عليه إبطاله، ولا تبطلوا أعمالكم، لذلك استدل على حرمة إبطال الصلاة، المشهور أنه لا يجوز إبطالها، السيد السستاني يخالف المشهور يرى عنده جواز قطع الصلاة ابتداءً.

إذاً الاحتمال الأول جهة حرمة إبطال العمل.

الاحتمال الثاني أن يكون السبب هو حرمة الفرار من الزحف.

ولكن فيه تأمل لأنه يوجد فرق بين كون الخروج محرماً وبين كون البقاء واجباً، فقد لا يهرب من الزاحف، ما يخرج، لكنه يبقى ولا يقاتل.

السبب السادس قال العلامة في القواعد: «إن الجهاد يتعين لعجز القائمين عن الدفع بدونه»[12].

وهذا يندرج ضمن الكفاية لأنه لم يتحقق ما به الكفاية.

السبب السابع قال العلامة في القواعد أيضاً: «إن الجهاد يتعين بالخوف على نفسه مطلقاً، وإن كان بين أهل الحرب، إذا صدمهم عدو يخشى منه على نفسه، ويقصد بمساعدتهم الدفع عن نفسه، لا عن أهل الحرب، ولا يكون جهاداً»[13].

وذكر هذا الحكم غير العلامة أيضاً وهو أنه إذا خشي المكلف على ماله جاز له الدفع إذا ظن غلبة السلامة، بخلاف ما إذا خشي على نفسه، فقد ذهبوا إلى وجوب الدفاع مطلقاً، ظن السلامة أو لا، لأن نفسه مهددة.

ومن الواضح أن هذا السبب السابع من باب وجوب الدفاع الشخصي عن النفس، وهذا أجنبي عن جهاد العدو الخارجي.

هذا تمام الكلام في الأمر الثالث سنخ الوجوب، واتضح أن الجهاد من سنخ الوجوب الكفائي لا الوجوب العيني، والله العالم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  سورة النساء، الآية 95.

[2]  المبسوط، الشيخ الطوسي، ج 2، ص 2، المكتبة الرضوية.

[3]  بداية المجتهد، ج 1، ص 391.

[4]  الرياض، ج 1، ص 487، طبعة حجرية.

[5]  بداية المجتهد، ص 391.

[6]  الخلاف، ج 2، ص 500، كتاب السير.

[7]  غنية النزوع، ص 522، السطر الثاني، من الجوامع الفقهية، طبعة مكتبة المرعشي النجفي.

[8]  كنز العرفان، ص 342.

[9]  سنن أبي داوود، ج 2، ص 10.

[10]  سورة التوبة، الآية 120.

[11]  المهذب، ج 1، ص 269.

[12]  قواعد الأحكام، كتاب الجهاد، ص 101، السطر الثاني والثالث.

[13]  قواعد الأحكام، ص 101، السطر الثالث، من الطبعة الحجرية، ص 371 من الطبعة الحديثة.

00:00

10

2024
| أكتوبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 7 الجلسة

10

أكتوبر | 2024
  • الكتاب: كتاب الجهاد
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
7 الجلسة