التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

04 - إشكال حول وضع لفظ الجلالة للعلمية وجوابه

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

13

2024 | أكتوبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 إشكال حول وضع لفظ الجلالة للعلمية وجوابه

 

إشكال حول وضع لفظ الجلالة للعالمية وجوابه.

قلنا إن الصحيح هو أن لفظ الجلالة «الله» اسم جامد قد وضع علماً شخصياً للذات الإلهية وليس من المشتقات، فهو ليس اسم جنس اشتق من مادة معينة في اللغة العربية.

فقد يقال إن كلمة «الله» عزّ وجل، لو كانت علماً شخصياً لم يستقم معنى قوله تعالى: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض، وذلك لأن لفظ الجلالة لو كان علماً لكانت الآية قد أثبتت له المكان، وهو محال إذ أن الله لا يؤين بأين ولا يكيف بكيف، فلا مناص من حمله على معنى مشتق، فيكون معناه المعبود أي وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض.

والجواب: المراد بالآية الشريفة أن الله تبارك وتعالى لا يخلو منه مكان، وأنه محيطٌ بما في السماوات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافيه، ويشهد لهذا قوله تبارك وتعالى في آخر الآية الكريمة: ﴿يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون فالآية بصدد بيان أن الله في كل مكان، ومطلع على كل شيء.

وقد روى أبو جعفر وهو محمد بن نعمان في ظن الشيخ الصدوق، قال: «سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّ وجل ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض، قال عليه السلام: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته، قال: ويحك! إن الأماكن أقدار»، يعني لها مقدار وحيز، يعني بتعبير الفيزياء: جسم يشغل حيز من الفراغ، والله منزه عن الجسمية ولا يحتاج إلى حيز من الفرع.

الرواية قال: «ويحك إن الأماكن أقدار، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك» يعني في مقدار وحيز «ولكن هو بائنٌ من خلقه، محيطٌ بما خلق، علماً وقدرةً وإحاطة وسلطانا»[1].

النتيجة النهائية:

لفظ ذو الجلالة الله اسمٌ جامد وليس مشتقاً، وقد وضع كـعلم شخصي يشير إلى الذات الإلهية، ولو قيل: إنه كان مشتقاً، ثم انتقل إلى العلمية، فهذا يدفع بأصالة عدم النقل في اللغة العربية، ودائماً موضوع الأصالة هو الشك، أي لو شككنا أنه هل كان مشتقاً ثم انتقل، أو من الأساس من الأول كان جامداً؟ الأصل عدم النقل أنه لم ينقل.

ولكن لا نمانع من النقل، فيمكن أن نلتزم إذا دلّ الدليل على أن لفظ الجلالة في البداية كان مشتقاً، ثم انتقل وأصبح جامداً.

لفظ الجلالة «الله» يبدأ بالهمزة، وفي هذا اللفظ خصوصية في اللغة العربية لا توجد في أي كلمة من سائر كلمات اللغة العربية، فالألف واللام في لفظ الجلالة جزء من لفظ الجلالة على العالمية، لكن الهمزة في لفظ الجلالة «الله» هي همزة وصل، تسقط في الدرج، فتقول: «حزب الله، نصر الله» ولا تظهر الهمزة في لفظ الجلالة إلا في حالة واحدة، وهي إذا وقعت بعد حرف النداء، فتقول: «يا الله» بإثبات الهمزة، وهذا مما اختص به لفظ الجلالة، ولم يوجد نظيره في كلام العرب قط.

فهمزة لفظ الجلالة دائماً همزة وصل، ولا تصبح همزة قطع إلا بعد مجيئها بعد حرف النداء.

إلى هنا أثبتنا أن لفظ الجلالة اسم جامد، وليس مشتقاً، ولا نمانع من أنه كان في الأصل مشتقاً، ثم انتقل إلى الجمود، وحينئذ نسأل: ما هو أصل اشتقاق لفظ الجلالة؟

توجد أقوال ثلاثة، والصحيح منها هو خصوص القول الأول.

القول الأول لفظ الجلالة مأخوذٌ من كلمة «لاه» بمعنى الاحتجاب والارتفاع، فهو مصدرٌ مبني للفاعل، أي محتجب ومرتفع، لأن الله تبارك وتعالى هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض.

والله عزّ وجل وهو في غاية ظهوره بآثاره وآياته وعلائمه، في نفس الوقت محتجبٌ عن خلقه بذاته، فلا تدركه الأبصار ولا تصل إلى كنهه الأفكار.

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر كليلا

أنت حيرت ذوي اللب وبلبلت العقولا

كلما أقدم فكري فيك شبراً فر ميلا

ناقصا يخبط في عشواء لا يهدي السبيلا

الخلاصة ـ خلاصة القول الأول ـ :

أصل لفظ الجلالة مشتق من «لاه» وأضيف له الألف واللام فصار «الله» ومعنى «لاه» احتجب وارتفع فهو مبني للفاعل وليس مبني للمفعول، ليس بمعنى احتجب أو ارتفع بل بمعنى الفاعل احتجب وارتفع فلفظ الجلالة «الله» يشير إلى الذات المرتفعة والمحتجبة عن خلقها، الظاهرة بآثارها.

القول الثاني لفظ الجلالة مشتقٌ من «ألِه» بمعنى تحير، فيصير مصدراً للمفعول، أي الذات المتحير فيها.

القول الثالث لفظ الجلالة مشتقٌ من «ألَه» بمعنى عَبدَ، فيصبح المصدر مبني للمفعول، أي الذات التي عبدت.

لكن القول الثالث والثاني ليس بصحيح.

أولاً لو قلنا إن مصدر الاشتقاق «ألِه» بمعنى تحير كما في القول الثاني، أو «ألَه» بمعنى عبد كما في القول الثالث، وأضفنا الألف واللام على «ألِه أو ألَه» لكانت النتيجة: «الإله» بخلاف القول الأول، وهو «لاه» فإذا أضفنا الألف واللام على «لاه» اصبح الله.

وثانياً بناءً على الاحتمال الأول «الله» من «لاه» يصبح المصدر مبنياً للفاعل مصدر للفاعل يعني الذات التي احتجبت وارتفعت، بخلاف الاحتمال الثاني «ألِه» والاحتمال الثالث «ألَه» يصبح المصدر مبنياً للمفعول أي الذات المتحير فيها أو الذات المعبودة.

هذا تمام الكلام في شرح لفظ الجلالة وتحليله، واتضح أنه اسم جامد، وضع علماً شخصياً للذات الإلهية، ولو التزمنا بأن أصله مشتق، ثم نقل إلى الجمود، فإننا نرى أن أصله من «لاه» بمعنى احتجب وارتفع، لا أن أصله «ألِه» بمعنى تحير أو «ألَه» بمعنى عبد.

إلى هنا أخذنا مفردة «بـسم والله».

المفردة الثالثة «الرحمن» اسم خاص لصفة عامة، فـلفظ «الرحمن» لا يطلق على غير الذات الإلهية فهو اسم خاص بالذات الإلهية، لكنه يدل على عموم الرحمة، فرحمة الله تعم الكافر والمسلم والمنافق والمشرك، فلفظ الرحمن يدل على عموم الرحمة، وإن كان هذا الاسم خاصاً بالذات الإلهية.

بخلاف لفظ «الرحيم» فإنه اسم عام يطلق على الله وعلى غيره، لكن الرحمة تختص بخصوص المؤمنين.

ومن هنا قيل: «الرحمن» اسم خاص بالله لصفة عامة تعم جميع الخلائق، و«الرحيم» اسم عام يعم الله وغيره لصفة خاصة بخصوص المؤمنين.

وسيأتي تأمل في هذا الفرق في نهاية بحث «الرحيم» لأن بعض الروايات استخدمت لفظ «الرحمن» للعموم وأيضاً لفظ «الرحيم» للعموم.

لفظ «الرحمن» مأخوذ من الرحمة والرحمة معناها معروف وهي ضد القسوة والشدة، قال الله تعالى: ﴿أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴿اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم، والرحمة من الصفات الفعلية، مثل: «الخلق والرزق» فعل من أفعال الله أنه يخلق أنه يرزق وأنه يرحم، وليست الرقة مأخوذة في صميم مفهوم الرحمة، بل الرقة من لوازم الرحمة في خصوص البشر.

فإذا جردنا الرحمة واقتصرنا على معناها الحقيقي ورقة القلب خارجة عن الرحمة، سنجد أن الرحمة من الصفات الفعلية لله كـالخلق والرزق يوجدها حيث يشاء، قال تعالى: ﴿ربكم اعلم بكم إن يشاء يرحمكم وإن يشاء يعذبكم ﴿يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة.

فـرحمة الله حسب ما تقتضيه حكمته البالغة، لذلك حثت الآيات على طلب الرحمة من الله تعالى، قال سبحانه: ﴿وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين.

ولنحلل مفردة لفظ «الرحمن»، «الرحمن» على وزن «فعلان»، وصيغة «فعلان» صيغة مبالغة، تقول: «جوعان، زعلان، فرحان» أي كثير الفرح وكثير الجوع.

قال غير واحد من المفسرين، وبعض اللغويين[2]:

«إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة، وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة، سواء كانت هيئة «فعلان» مستعملة في المبالغة أم لم تكن، فإن كلمة «الرحمن» في جميع مواردها محذوفة المتعلق، وتعرفون في اللغة العربية حذف المتعلق يدل على العموم، فيستفاد من لفظ «الرحمن» العموم، وأن رحمة الله وسعت كل شيء».

ولذلك لا يقال: إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمن، بل يقال: إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم، لأن لفظ الرحيم خاص، ولفظ الرحمن عام.

الآن نختم بهذه النكتة:

لفظ «الرحمن» على الرغم من تضمنه لصفة، وهي الرحمة، لكنه أصبح لقباً لله عزّ وجل يعني، في أي مكان تأتي بمفردة «الله» يمكن تحذفها وتذكر مفردة «الرحمن» من أبرز أسماء الله الحسنى، فكلمة الرحمن بمنزلة اللقب فلا تطلق كلمة الرحمن على غيره، وإن كان أنا وجدت في بعض الناطقين بغير اللغة العربية من طجكستان وغيره اسمه «رحمن»، ولكن في اللغة العربية لا يطلق «رحمن» على غير الله.

لذلك بما أن لفظ «الرحمن» يذكر في بعض المواضع كـ لقب لله فيذكر مكان لفظ اسم الله ولو كان الموضع لا يناسب المادة يعني مورد فيه قسوة وشدة ويذكر لفظ «الرحمن» بمعنى «الله»، قال تعالى: ﴿إن يردني الرحمن بضر يعني إن يردني الله بضر وإلا لفظ الرحمن ما يناسب الضرر ﴿إن يردني الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون فهنا استخدم لفظ «الرحمن» ليس بمعنى أنه كثير الرحمة، بمعنى أنه لقب لله، تمام الآيات هكذا في سورة يس:

﴿قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن يردني الرحمن بضر لا تغني عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ثم في آية أخرى ﴿هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون هو في قتل ورغم ذلك يقول: هذا ما وعد الرحمن، هذا ما وعد الله.

﴿ما نرى في خلق الرحمن من تفاوت أي في خلق الله من تفاوت.

نختم بهذه النكتة التي تقرب اختصاص لفظ «الرحمن» بالله عزّ وجل، وهي قوله تعالى: ﴿ربّ السّماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميّا وهذه الآية وردت في سورة مريم ﴿هل تعلم له سميّا في سورة مريم ذكر لفظ «الرحمن» ستة عشر مرة، فإن الملحوظ أن الله تعالى قد اعتنى بكلمة «الرحمن» في هذه السورة مريم حتى كررها فيها ست عشرة مرة، وهذا يقرب أن المراد بالآية الكريمة أنه ليس لله سمي بتلك الكلمة، وأنه قد اختص باسم «الرحمن».

هذا تمام الكلام في تحليل مفردة الرحمن، تحليل مفردة الرحم، يأتي عليها الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  تفسير البرهان، السيد هاشم التبلاني البحراني، ج 1، ص 315.

[2]  تفسير البيان، السيد الخوئي، ص 430.

00:00

13

2024
| أكتوبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 5 الجلسة

13

أكتوبر | 2024
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
5 الجلسة