التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

08 - معالجة الروايات المتعارضة في جزئية البسملة

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

20

2024 | أكتوبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 معالجة الروايات المتعارضة في جزئية البسملة

تطرقنا إلى الأدلة التي دلت على جزئية البسملة من سورة الحمد وجميع سور القرآن عدا سورة براءة، وذكرنا الدليل الأول وهو أحاديث أهل البيت عليهم السلام، والدليل الثاني وهو أحاديث أهل السنة، ويوجد في مقابل هذه الروايات روايتان دلت على عدم جزئية البسملة للسورة:

الرواية الأولى رواية قتادة عن أنس بن مالك، قال: «صليت مع الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم اسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم»[1].

الرواية الثانية ما رواه ابن عبد الله بن مغفل، يزيد بن عبد الله، قال: «سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: أي بني إياك، قال: ولم أرى أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان أبغض إليه حدثاً في الإسلام منه، فإني قد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان فلم اسمع أحداً منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين».

ويمكن أن تناقش هاتان الروايتان بعدة أمور ومناقشات ووجوه ذكرها سيد أساتذتنا المحققين السيد أبو القاسم الخوئي[2] والوجوه كما يلي:

الوجه الأول هاتان الروايتان معارضتان بالروايات المتواترة معناً، المنقولة عن طرق أهل السنة فضلاً عن طرق الشيعة الإمامية، خصوصاً أن جملةً من أحاديث أهل السنة صحيحة السند، فكيف يمكن تصديق هذه الرواية؟!

خصوصاً مع شهادة عبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأم سلمة، على أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقرأ البسملة ويعدها آية من سورة الفاتحة، وأن عبد الله بن عمر كان يقول: «لما كتبت إن لم تقرأ؟!»، وإن علياً عليه السلام كان يقول: «من ترك قراءتها فقد نقص»، وكان يقول: «هي تمام السبع المثاني».

فليرجع إلى الروايات الشريفة التي ذكرت في كتب أهل السنة، فقد روى البيهقي بإسناده عن أم سلمة «أن رسول الله صلى الله عليه وآله قرأ في الصلاة: «بسم الله الرحمن الرحيم» فعدها آية»[3].

وعن عبد خير قال: «سئل علي عن السبع المثاني، فقال: الحمد لله، فقيل له: إنما هي ست آيات، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم آية» ورواها عن أبي هريرة أيضاً عبد الخير.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله كان يقول: «الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن «بسم الله الرحمن الرحيم»».

وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله «كان يستفتح القراءة بـ بسم الله الرحمن الرحيم» رواها الترمذي[4] أيضاً.

وعن ابن عمر «أنه كان إذا افتتح الصلاة كبر، ثم قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله» فإذا فرغ قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم»، قال: وكان لما كتبت في المصحف إن لم تقرأ؟!» إلى غير ذلك من الروايات[5].

وفي كنز العمال للمتقي الهندي، وهذا تقريباً أكبر موسوعة روائية عند العامة، في فضل فضائل السور والآيات[6] روى الثعلب عن علي عليه السلام : «أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم»، وكان يقول: «من ترك قراءتها فقد نقص»، وكان يقول: «هي تمام السبع المثاني»».

هذا تمام الكلام في بيان الوجه الأول.

الوجه الثاني هاتان الروايتان مخالفتان لما اشتهر بين المسلمين من قراءة البسملة في الصلاة.

الوجه الأول ناظر إلى جزئية البسملة لسورة الحمد والسورة التي بعدها، الوجه الثاني ناظر إلى وجوب قراءة البسملة في الصلاة، وهذا مشهورٌ بين المسلمين، حتى إن معاوية ترك قراءة البسملة في صلاته في يوم من أيام خلافته، فقال له المسلمون: «أسرقت أم نسيت؟».

فمع هذه الشهرة والسيرة المستحكمة بين المسلمين إلى عهد معاوية يعني بعد العام الأربعين من الهجرة كيف يصدق بأن رسول الله ومن بعده لم يقرأها، ولنقرأ قصة نسيان معاوية قراءة البسملة في كتب الحديث، فقد روى البيهقي[7] بإسناده عن أنس بن مالك، والرواية الأولى عن أنس بن مالك وهذه الرواية عن أنس بن مالك معارضة لها، أنه قال:

«صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فقرأ بسم الرحمن الرحيم لام القرآن» أي سورة الفاتحة «ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حين يهوي» يعني إلى السجود «حتى قضى تلك الصلاة» انتهى منها، «فلما سلم ناداه من شهد ذلك من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟!، فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم لسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين يهوي ساجداً».

والملاحظ في هذه الرواية: أنه لم يحذف بسملة سورة الفاتحة، بل اقتصر على حذف بسملة السورة التي بعد الفاتحة، وناداه المصلون من كل مكان «أسرقت أم نسيت؟!».

وروى البيهقي هذه الرواية بطريق آخر غير أنه قال: «فلم يقرأ باسم الله الرحمن الرحيم أم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها»، وزاد الأنصار، يعني الرواية هكذا: ناداه من شهد ذلك من المهاجرين، من كل مكان زاد: «ناداه من شهد ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان» أي السيرة مستحكمة، وحذف البسملتين.

هذه الرواية رواها الحاكم النيسابوري[8]، وقال: «حديث صحيح على شرط مسلم» يعني وفقاً للشروط التي يعتبرها مسلم صاحب الصحيح في صحة الحديث يكون هذا الحديث صحيح الإسناد.

هذا تمام الكلام في الوجه الثاني.

الوجه الثالث هاتان الروايتان، وخصوصاً الرواية الأولى المروي عن أنس بن مالك مخالفٌ لما استفاض نقله عن أنس بن مالك، روايات مستفيضة مروية عنه، مما يكشف عن أن هذه الرواية موضوعه، قرأنا عدة روايات، رواية فيما مضى، هذه روايات أنس الرواية الأولى ما رواه أنس قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه مبتسماً، فقال: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفا سورة فقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر»»[9].

وروايات أخر أيضاً نقلت عن أنس منها هذه الرواية رواية ثانية، روى قتادة عن أنس «أن قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله كانت مداً، ثم قرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم»[10].

الرواية الثالثة عن أنس، روى شريك عن أنس، قال: «سمعت رسول الله يجهر بـبسم الله الرحمن الرحيم»، قال الحاكم: «رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات».

الرواية الرابعة روى العسقلاني، قال: «صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والمغرب، فكان يجهر بـ «بسم الله الرحمن الرحيم» قبل فاتحة الكتاب وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي  ـ ابن كعب ـ ، وقال أبي ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله» اقتداء وسيرة مستحكمة.

قال الحاكم النيسابوري: «رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقاة»[11].

الرواية الخامسة روى أبو نعامة عن أنس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وعمر لا يقرأون يعني لا يجهرون بـ «بسم الله الرحمن الرحيم»»[12].

من هذه الرواية الاخيرة يمكن الجمع بين الروايات بأن النبي لم يقرأ بمعنى لم يجهر، لا أنه لم يقرأ، لذلك يعلق السيد الخوئي[13] رحمه الله: «يمكن أن يكون المراد من رواية أنس المتقدمة التي استدلوا بها على أن البسملة ليست من القرآن أن رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعده لم يجهروا بالبسملة، والقرينة على ذلك هذه الرواية الأخيرة، ويؤيد هذا أن أنس قد عبر في الرواية المتقدمة بعدم سماعه القراءة» لم يسمع القراءة، وفي بعض روايات أنس قال: «فلم اسمع أحداً منهم يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم»، وفي بعضها قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم»[14].  

وبالتالي لا توجد معارضة بين رواية أنس المتقدمة التي استدل بها على عدم جزئية البسملة وعدم وجوب قراءتها، وبين ما ذكرناه من الروايات الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعده كانوا يقرأون البسملة.

نعم، ذكر في رواية واحدة أنهم لا يذكرون بسم الله في أول قراءة ولا في آخرها[15]، لكن في سند هذه الرواية الوليد بن مسلم القرشي، وفي وثاقته كلام، بل صرح غير واحد بكثرة خطأه، وتدليسه[16].

وأما رواية قتادة عن أنس «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وأبو بكر وعمر وعثمان يفتتحون القراءة بالحمد لله ربّ العالمين» وهي مروية في سنن الترمذي[17]، فهذه الرواية محمولة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعده كانوا يبدأون بقراءة فاتحة الكتاب، وقد أطلق على فاتحة الكتاب عنوان الحمد لله ربّ العالمين، فلا يراد أنه يبدأ بقوله: الحمد لله رب العالمين، بل المراد يقرأ سورة فاتحة الكتاب، ووقع مثل هذا الكلام في بعض الروايات، ولذلك الشافعي حمل الحمد لله رب العالمين على قراءة سورة الفاتحة.

هذا تمام الكلام في المناقشة الثالثة للرواية الأولى والثانية.

توجد مناقشة رابعة، الوجه الرابع خاص بالرواية الثانية، التي هي مروية عن ابن عبد الله بن مغفل، فالوجوه الثلاثة المتقدمة تصلح لمناقشة الرواية الثانية، لكن الرواية تضمنت ما يخالف ضرورة الإسلام، فإنه لا يشك أحد من المسلمين في استحباب التسمية قبل الحمد والسورة، ولو بقصد التيمن والتبرك، فإن لم نقل إن البسملة جزء، ولكن الكل يسلم بأنها افتتاح، لا لأن البسملة جزء بل لأنها افتتاح وتيمن وتبرك، فيستحب البدء بالبسملة.

لكن ابن مغفل نهى عنها بدعوى أنها حدث في الإسلام يعني بدعة، ولم يقل أحد بذلك أن الابتداء بالبسملة بدعة.

إذاً الصحيح أن البسملة جزء من سورة الفاتحة ومن جميع سور القرآن، وثانياً تجب قراءتها في الصلاة.

هذا تمام الكلام في الدليل الأول والثاني، الدليل الأول أحاديث أهل البيت، الدليل الثاني أحاديث أهل السنة، واتضح أن الروايات المعارضة لها لا تنهض.

الدليل الثالث سيرة المسلمين.

فقد استقرت سيرة المسلمين على قراءة البسملة في سورة الحمد وأوائل جميع سور القرآن عدا سورة براءة، وثبت بالتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقرأ البسملة، فلو لم تكن البسملة من القرآن للزم على النبي أن يصرح بذلك، فإن قراءة النبي للبسملة وهو في مقام البيان، بيان سور القرآن ظاهر في أن جميع ما يقرأ قرآن.

ولو لم يكن بعض ما كان يقرأه قرآناً ولم يصرح بأنه ليس بقرآن لكان ذلك من النبي إغراء بالجهل وهو قبيح وحاشا النبي صلى الله عليه وآله أن يفعل ذلك، خصوصاً فيما يرجع إلى الوحي الإلهي، فإنه يكون أشد قبحاً.

ولو صرح النبي بأن البسملة ليست من القرآن لنقل إلينا بالتواتر، والحال أنه لم ينقل إلينا حتى بأخبار الآحاد الظنية.

الدليل الرابع مصاحف التابعين والصحابة.

ومن الواضح أن مصاحف التابعين والصحابة مثل مصحف أبي ومصحف عبد الله بن مسعود ومصاحف كثيرة كانت قبل جمع عثمان بن عفان للقرآن الكريم وبعد جمعه كلها كانت مشتملة على البسملة، ولو لم تكن من القرآن لما أثبتوها في مصاحفهم، لأن الصحابة منعت أن يدرج في المصحف ما ليس من القرآن حتى أن بعض المتقدمين منعوا عن تنقيط المصحف وتشكيله، وأول من نقطه وشكله خالد بن أبي الهياج في زمن متأخر، وأول من أعربه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذه المصاحف كلها سابقة على الخليل بن أحمد الفراهيدي وخالد بن أبي الهياج.

فإثبات البسملة في مصاحفهم شهادة منهم بأنها من القرآن الكريم، وليس الشهادة مجرد الفعل، الفعل أعم، لكن توجد قرينة أنهم يمنعون ما ليس بالقرآن كالتشكيل والتنقيط، ولما كرروا البسملة، ومن هنا يتضح بطلان هذا الاحتمال وهو أنهم أثبتوا البسملة للفصل بين السور.

ولو تمت هذه الدعوة أنهم أثبتوها للفصل بين السور لما جعلوا في بداية سورة الفاتحة بسملة لأنه ليس قبلها سورة، ولأثبتوها قبل سورة براءة لكي يفصلوا بين سورة براءة وما قبلها.

إذاً هذا يدلنا قطعاً على أن البسملة آية منزلة في الفاتحة وجميع سور القرآن عدا سورة براءة.

هذا تمام كلام في أدلة إثبات جزئية البسمة للسورة، يبقى الكلام في أدلة نفاة جزئية البسملة، يأتي عليه الكلام وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  صحيح مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث 605.

مسند أحمد بن حنبل، رقم الحديث 12345، وأيضاً 13386.

[2]  البيان في تفسير القرآن، ص 446، و 447.

[3]  روى هذا الحديث الحاكم النيسابوري، في المستدرك، ج 1، ص 232، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين أي البخاري ومسلم.

[4]  سنن الترمذي، ج 2، ص 44.

[5]  سنن البيهقي، ج 2، ص 43 إلى 47.

[6]  ج 2، ص 190، في باب البسملة، آية 375.

[7]  ج 2، ص 49.

[8]  المستدرك على الصحيحين، ج 1، ص 233.

[9]  صحيح مسلم، كتاب الصلاة، رقم الحديث 607.

[10]  سنن البيهقي، باب افتتاح القراءة في الصلاة بـ بسم الله، ج 2، ص 46.

المستدرك، الحاكم النيسابوري، حديث الجهر بـ بسم الله، ج 1، ص 233.

[11]  المستدرك، ج 1، ص 233 و 234.

[12]  سنن البيهقي، باب من قال لا يجهر بها، ج 2، ص 52.

[13]  تفسير البيان، ص 530.

[14]  سنن النسائي، باب ترك الجهر بـ بسم الله، ج 1، ص 144.

[15]  صحيح مسلم، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، ج 2، ص 12.

[16]  تهذيب التهذيب.

[17]  باب ما جاء في افتتاح القراءة بالحمد، ج 2، ص 45.

00:00

20

2024
| أكتوبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 9 الجلسة

20

أكتوبر | 2024
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
9 الجلسة