شرح نهج البلاغة.
شیخ الدقاق

04 - أقسام المعرفة

شرح نهج البلاغة

  • الكتاب: شرح نهج البلاغة
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

02

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 أقسام المعرفة

جاء في الخطبة الأولى من نهج البلاغ لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: «أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال فيما فقد ضمنه، ومن قال على ما فقد أخلى منه» صدق سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين.

حينما اقرأ هذه الكلمات أتساءل في نفسي هل كان القوم الحاضرون يعون معنى هذه الكلمات؟! كلمات عظيمة ودقيقة وعميقة في توحيد الله تبارك وتعالى.

هذا المقطع تضمن عدة مفردات لابد من بيانها، سنوضح بعض المفردات في البداية، وبقية المفردات في أثناء الشرح.

أول مفردة «الدين» الدين يطلق على عدة أشياء:

الأول الطاعة والانقياد، فيقال: فلان يدين لفلان، أي ينقاد لفلان ويطيعه.

المعنى الثاني العبادة، يقال: فلان دين متدين كثير التدين، أي كثير العبادة.

المعنى الثالث الدين هو المبدأ الذي يعتقد به الإنسان كالإسلام، فهنا أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين يقول: «أول معرفته» أي معرفة الله تبارك وتعالى.

فإما أن يقال أول الدين معرفته يعني أول المبدأ الذي يعتقد به الإنسان المسلم وهو الإسلام هو معرفة الله.

ويمكن أن يقال أيضاً أول الطاعة معرفة الله.

والمعرفة هي عبارة عن إدراك الشيء.

سؤال: ما هو الفرق بين العلم والمعرفة؟

وقد أجيب عن ذلك كما في بداية شرح المختصر، من أن العلم يتعلق بالكليات والأمور العامة، بينما المعرفة تتعلق بالجزئيات، فكل من العلم والمعرفة إدراك للشيء، لكن العلم إدراك للشيء الكلي، والمعرفة إدراكٌ للشيء الجزئي، فتقول: أنا اعرف فلان تمام المعرفة، ولا تقول: أنا اعلم فلان أو اعلم بفلان بتمام العلم.

والسر في ذلك:

أن فلان شخصٌ فهو جزئي.

وقيل: إن المعرفة هي إدراك الشيء ثانياً بعد توسط النسيان، يعني كان على علم ونسي ثم أدركه مرة أخرى فيقال معرفة، وهذا المعنى ينسجم مع أن هذه الرواية التي تقول: «المولود يولد على الفطرة، ولكن والداه إما يهودانه أو ينصرانه» فهناك معرفة توحيدية فطرية عند الإنسان من عالم الذر، لكن حينما جاء إلى الدنيا نساها، فيتعلمها من جديد فيعرفها.

قال عليه السلام : «أول الدين معرفته» أي أول شيء في الإسلام هو معرفة الله وتوحيد الله تبارك وتعالى، وأشرف العلوم هو علم التوحيد.

والسر في ذلك:

أنه علم يختص بمعرفة الواجب المطلق والغني الذي يفيض الوجود على سائر الموجودات، وسائر الموجودات ممكنة وفقيرة، وجميع الموجودات فقيرة تفتقر إليه، لذلك جاء في التلبيات في الحج: «لبيك ذا المعارج لبيك، لبيك داعياً إلى دار السلام لبيك، لبيك تستغني ويفتقر إليك لبيك».

قال تعالى: «يا أيها الناس أنتم الفقراء والله هو الغني الحميد» إذا معرفة الغني أولى من معرفة الفقير، لأن الفقير قوامه بالتعلق بالغني، والغني هو الذي يفيض الوجود على الفقير، فأول الدين معرفته، أي أول الإسلام هو معرفة الله تبارك وتعالى.

قال عليه السلام : «وكمال معرفته ـ الله ـ التصديق به».

التصديق هو إذعان النفس وإقرارها بالشيء، والتوحيد في اللغة جعل الشيء واحداً، والمعرفة على ثلاثة أقسام:

القسم الأول المعرفة الإجمالية.

القسم الثاني المعرفة الكاملة.

القسم الثالث المعرفة التامة.

فالمعرفة إما إجمالية أو كاملة أو تامة.

بيان ذلك:

القسم الأول المعرفة الإجمالية الناقصة، فمثلاً: لو رأيت شبحاً من بعيد، وقلت: هذا طائر، أو هذا إنسان، أو هذا حيوان، أو هذا شجر، فهذه معرفة إجمالية عامة، وليس فيها معرفة تفصيلية تدقيقية، والإنسان كل إنسان يعرف الله عزّ وجل معرفة إجمالية ناقصة إذ أن العقل يحكم بأن كل مصنوع لابد له من صانع، وأقرب برهان إلى عموم الناس هو برهان النظم.

ومفاده: إن المنظم يكشف عن منظم، وبرهان نظم برهان إني يتم الانتقال فيه من المعلول إلى العلة، فتقول: إن المعلول يكشف عن وجود العلة، إن الكون المنظم هو معلوم، يكشف عن وجود خالق منظم، فهذه معرفة إجمالية.

والمعرفة الإجمالية كما بالنسبة إلى الخالق أيضاً تكون بالنسبة إلى مخلوق، ولذلك تقول في الزيارة عندما تزور الإمام المعصوم عليه السلام تقول: «عالم بأنك إمام مفترض الطاعة صديق شهيد».

وفي بعض الزيارات أنك تعرف الإمام حق معرفته، وقد تتساءل في نفسك أنّى لك أن تدرك كنه المعصوم وأنت غير معصوم وأنّى لغير المعصوم أن يحيط بالمعصوم.

والجواب: المراد بمعرفة الإمام حق معرفته خصوص المعرفة الإجمالية التي ينبغي أن تكون لكل شيعي وموالي.

وما هي هذه المعرفة؟

والجواب: هذه المعرفة نص عليها في الروايات عالم بأنك إمام مفترض الطاعة صديق شهيد، يعني يكفي أي عامي من عوام الشيعة أن يعتقد أن هذا الإمام مفترض الطاعة وطاعته واجبة أولاً، وثانياً أنه صديق، وثالثاً أنه قتل شهيداً ومظلوماً.

إذا القسم الأول من المعرفة معرفة الله وغير الله المعرفة الإجمالية.

وهنا قد يقال: المعرفة تعني العلم والوضوح والبيان والإجمال يعني إبهام والغموض، فكيف يجتمع الوضوح مع الغموض؟ فكيف تقول: معرفة غامضة؟! والحال أن المعرفة واضحة.

والجواب: إن المراد بالمعرفة هو الإطلاع على أصل الشيء، والمراد بالإجمال والإبهام هو الإبهام في تفاصيل الشيء، فحينما تقول إنك تعرف الله إجمالاً، فانت على علم ومعرفة بأصل الذات الإلهية وهي الذات التي خلق وأوجدتك، لكن تفاصيل هذه الذات وكنه هذه الذات مجهولٌ ومبهم لديك.

وهكذا بالنسبة إلى الإمام المعصوم فأصل مبدأ العصمة وما ينبغي أن يكون في الإمام المعصوم واضح لكل شيعي أنه إمام مفترض الطاعة صديق شهيد، وأما تفاصيل شخصية المعصوم وخصوصيات المعصوم فهي مبهمة وغامضة لدى غير المعصوم، لذلك لا يعرف المعصوم إلا المعصوم.

يوجد كتاب ثلاثة أجزاء حياة أمير المؤمنين على لسانه، أنت تعرف أمير المؤمنين من لسانه ولسان أبنائه المعصومين.

والخلاصة:

القسم الأول المعرفة الإجمالية، وهي معرفة ناقصة والنقص أين يكمن؟ في التفاصيل.

المعرفة الثانية المعرفة الكاملة وسميت كاملة بالنسبة إلى المعرفة التي قبلها وهي المعرفة الناقصة الإجمالية وإلا فنفس هذه المعرفة الكاملة في حد نفسها ناقصة.

والسر في ذلك:

إن الله وتعالى لا متناهي ولا محدود والإنسان وسائر الموجودات الممكنة متناهية ومحدودة، وأنّى للمتناهي والمحدود أن يدرك وأن يحيط باللامحدود واللامتناهي.

إذا القسم الثاني سمي بالمعرفة الكاملة بالمعنى النسبي أي بالنسبة إلى المعرفة الإجمالية الناقصة يكون القسم الثاني الذي فيه تعمق وإطلاع على خصوصيات الذات الإلهية تكون هذه المعرفة، معرفة كاملة كإدراك أن الذات عين الصفات، والصفات عين الذات، وأن ذات الله بسيطة وليست مركبة، هذا عوام الناس ما يعرفون هذا، هذا يحتاج تدرس في الحوزة: علم الكلام والعقائد، وتتعمق، وأيضاً تتفاوت الناس في كمال معرفتهم.

القسم الثالث المعرفة التامة وهي أن يطلع العبد على حقيقة ربّه بالتفصيل، ويعلم كنه الذات الإلهية، ويدرك عقله الذات الإلهية بشكل تام ودقيق، وهذا القسم محال ولا يحصل لأي أحد من الناس والمخلوقات حتى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله.

وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة المعراج لما أتاه النداء من ربّ العزة أن يا أحمد هل عرفتني حق معرفتي؟ فقال صلى الله عليه وآله : «إلهنا ما عرفناك حق معرفتك»[1].

إشكال جاء في الرواية عن رسول الله أبي القاسم محمد: «يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولم يعرفني إلا الله وأنت، ولم يعرفك إلا الله وأنا» ففي مطلع الرواية ما عرف الله إلا أنا وأنت، وفيه إشارة إلى اختصاص معرفة الله الكاملة بخصوص النبي الخاتم ووصيه أمير المؤمنين عليه السلام. وجاء في رواية آخر عن أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين أنه قال: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» أي أن أمير المؤمنين عرف الله حق معرفته بحيث لو كشف له غطاء الغيب عن الذات الإلهية لما ازداد يقينه، فكيف نجمع بين هاتين الروايتين، وهذا المبدأ العقلي الذي يقول: إن الله واجب الوجود وهو غير محدود ولا متناهي، وإن سائر الممكنات والمخلوقات ومنها النبي والوصي موجود ممكن محدود متناهي، وأنّى للمحدود أن يدرك اللامحدود، وأنّى للمتناهي أن يدرك اللا متناهي؟

والجواب: إن المعرفة التامة للذات الإلهية لا تتحقق لأي مخلوق مطلقاً حتى النبي والوصي، وهذا ثابت بحكم العقل إذ أن الذات الإلهية لا متناهية ولا محدودة، ولا يمكن للمتناهي والمحدود أن يحيط باللامتناهي واللامحدود.

ولكن هذا المتناهي والمحدود له معرفة ناقصة، وله معرفة كاملة، بحيث هذا أقصى حد لمعرفة الناقص والمحدود، والنبي والوصي وصلا إلى أقصى حد للمعرفة التي يمكن أن يصل إليها المخلوق الناقص والممكن والمحدود.

فأمير المؤمنين حينما يقول: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» يعني لو كشف لي الغطاء عن الذات الإلهية لما احتجت أن ارتقي بالنسبة إلى المعرفة التي يمكن أن يصل إليها الممكن والمحدود والناقص والمتناهي، فالإنسان الذي هو مخلوق ممكن ومتناهي هناك حد أدنى من المعرفة وهناك حد أعلى من المعرفة بالنسبة له، فالنبي وأمير المؤمنين وصلا إلى أقصى حد للمعرفة.

لذلك لاحظ الرواية ماذا قالت: «يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت» يعني لم يعرف الله معرفة يمكن أن يصل إليها أي مخلوق من الناس إلا أنا وأنت، يعني أنا وأنت يا علي قد وصلنا إلى أعلى درجة يمكن أن يصل إليها الممكن، ولم يقل ما عرف الله حق معرفته إلا أنا وأنت.

لذلك يقول الإمام السجاد: «ما عرفناك حق معرفتك».

إذاً «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً» تكون المعرفة المنفية هي باعتبار عدم معرفة الممكن، معرفة تامة بالواجب المطلق، الممكن لا يمكن أن تكون معرفته معرفة تامةللمطلق.

هذا تمام الكلام في أقسام المعرفة، واتضح أن القسم الثالث مستحيي وهو المعرفة التامة، والقسم الثاني المعرفة الكاملة ممكنة، وأقصى حد للمعرفة الكاملة لم يصل إليها إلا النبي وعلي، وأدنى المعرفة هي المعرفة الناقصة أن يدرك الإنسان أن الله عزّ وجل قد خلقه، فأدنى لاحظ أمير المؤمنين «أول الدين معرفته» يعني أول مراتب العبودية وأدنى مراتب الدين أن يعرف الإنسان أن الله قد خلقه، أن الله الواحد هو الذي أوجده.

إلى هنا تطرقنا إلى معرفة الله، يبقى ما يتفرع على معرفة الله مراتب التوحيد، قال علي عليه السلام : «وكمال معرفته التصديق به» يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

 

[1][1]  عوالي اللئالي، ج 4، ص 232، الحديث 227، لابن أبي جمهور الإحسائي.

00:00

02

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 6 الجلسة

02

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: شرح نهج البلاغة
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
6 الجلسة