بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 المبنى الثاني حجية قول الرجالي من باب الشهادة

المبنى الثاني حجية قول الرجالي من باب الشهادة، ومن الواضح أن البينة الشرعية وشهادتها وحجيتها تفتقر إلى التعدد فأقل البينة شاهدان عادلان.

وأول من ذهب إلى هذا القول حسب ما نعلم هو المحقق الحلي في كتابه[1] لكنه لم يذكر دليلاً على ذلك بل أطلق القول به، وتبعه على ذلك صاحب المعالم الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني، وصاحب المدارك السيد محمد العاملي سبط الشهيد الثاني، وقد استدل صاحب المعالم على القول بأن مدرك حجية قول الرجالي هو أخذ قوله من باب حجية الشهادة بدليلين حيث قال ما نصّه:

«وهذا عندي هو الحق أنها شهادة ومن شأنها اعتبار التعدد فيها كما هو ظاهر وأن مقتضى اشتراط العدالة اعتبار حصول العلم بها، والبينة تقوم مقامهُ شرعاً، فتغني عنه، وما سوى ذلك يتوقف الاكتفاء به على الدليل»[2].

ولعل الشيخ حسن في المعالم هو أول من استدل على حجية قول الرجالي من باب الشهادة، فلابد من دراسة ما ذكره، وقد ذكر أمرين لابد من مناقشتهما:

الأمر الأول أن التزكية شهادة، ومن شأن الشهادة التعدد.

وقد ناقشه المرحوم الشيخ محمد بهاء الدين العاملي المعروف بالشيخ البهائي بنقطتين:

المناقشة الأولى منع الكبرى والصغرى، فمن قال إن إخبار الرجالي هو من باب الشهادة؟! فنحن ننكر الصغرى، ولا نسلم بأن توثيق الرجالي صغرى من صغريات الشهادة، فما أكثر الموارد التي لم يطلق عليها أنها شهادة كنقل الإجماع ومترجم القاضي، فهذه كلها إخبارات فمترجم القاضي أو الطبيب يخبر عما قاله الطبيب والقاضي، ومن نقل الإجماع يخبر عن هذا الإجماع، فكذلك من ينقل التوثيق والتضعيف يخبر عنه لا أنه يشهد به.

إذا خلاصة المناقشة الأولى للشيخ البهائي أن قول الرجال صغرى من صغريات الإخبار الحسي وليس صغرى من صغريات الشهادة والتزكية والبينة الاصطلاحية.

المناقشة الثانية لو سلمنا بكون إخبار الرجالي شهادة أي سلمنا بالصغرى، لكننا ننكر الكبرى، فمن قال: إن كل بينة لا بد من التعدد فيها وأن كل شهادتين لابد من التعدد فيها.

وقد استند في ذلك إلى قبول شهادة الواحد عند بعض علمائنا في بعض الموارد.

هذا تمام كلام المحقق الشيخ البهائي في الرد على المحقق الشيخ حسن صاحب المعالم.

والذي ينبغي أن يقال: هو أن مصطلح الشهادة في باب التزكية لم يرد في آية ولا رواية، فلابدّ من تحليل ما يقوم به المزكي عند تزكيته، وقد اتضح عندما تطرقنا إلى المبنى الأول وهو أن مدرك حجية قول الرجالي هو حجية خبر الواحد الثقة، وأن الرجالي يخبر عن حس، فكذلك نقول: إن الرجالي إنما أخبر عن حسٍ لا أنه يشهد بالتزكية حاله حال البينة الشرعية.

فهنا إما أن تحمل الشهادة على معناها اللغوي فهي حينئذ تساوق وتساوي الخبر أي الإخبار الحسي، وإما تحمل الشهادة المعنى على المعنى الاصطلاحي والتي يشترط فيها العدالة والتعدد، وهذا أول الكلام نظراً لوضوح أن أكثر الشهادات والتوثيقات قد صدرت من بعض المعاصرين الذين لم تتوفر فيهم العدالة، كابن عقدة الزيدي، وابن فضال الفطحي، وغيرهما من أعلام الرجاليين الذين هم من مشاهير علم الرجال ومن الموثقين والمضعفين لكنهم لم يكونوا من الإمامية، والعدالة المعتبرة في البينة هي أن يكون الشاهد عدلاً إمامياً، فإذا حملنا العدالة على العدالة الاصطلاحية بمعنى أي الإيمان بأن يكون الراوي شيعياً إمامياً اثنا عشرياً، ففي هذه الحالة يلزم من ذلك ـ هذا إشكال نقضي ـ خروج أكثر توثيقات المشاهير الرجاليين هذا أولاً.

وثانياً لا يكتفى بتوثيق الشيخين النجاشي والطوسي _{رضوان الله عليهما} وإن تعددا لأننا حينئذ نشترط التعدد في كل طبقة طبقة، مثلاً: لو روى ونقل التوثيق الشيخ الطوسي مع زميله النجاشي عن أستاذهما الحسين بن عبيد الله الغضائري، فلا بدّ أن ينقلا عن اثنين لا عن واحد، وهكذا الحسين الغضائر الأب أستاذ الشيخين النجاشي والطوسي لابد أن يكون معه شيخ آخر ينقلان، وهكذا الغضائر ومن معه في الطبقة ينبغي أن ينقل عن اثنين، وهكذا فلا بد من التعدد في كل طبقة إلى أن نصل إلى المفردة الموثقة، ومن الواضح أن هكذا طريقة في التوثيق لا يمكن أن نوثق أي رجل من الرجال بلحاظ التعدد في كل طبقة طبقة.

إذاً اتضح مما سبق أن أدلة حجية خبر الواحد الثقة تدل وعمدتها السيرة العقلائية على حجية خبر الواحد الثقة مطلقاً في الأحكام والموضوعات معاً، كما أن أدلة حجية البينة دلت على حجية البينة في موارد خاصة كالحدود والتعزيرات، فقالت: إن البينة في إثبات حد الزنا والسحاق والعياذ بالله أربعة رجال، بينما بينت ثبوت حد السرقة والقتل رجلان عدلان فقط، فالأصل هو حجية خبر الثقة في جميع الأحكام والموضوعات إلا ما خرج بالدليل، فإذا نصّ الدليل الخاص على عدم الاكتفاء بخبر الثقة واشتراط البينة فنحن مع هذا الدليل الخاص، وفي موطن بحثنا وهو حجية قول الرجالي لم يرد دليل خاص ينص على اشتراط التعدد والبينة واشتراط العدالة، فيشمله عموم أدلة حجية خبر ثقة.

هذا تمام الكلام في مناقشة الدليل الأول لصاحب المعالم أن التزكية شهادة، ومن شأن الشهادة التعدد.

الدليل الثاني عدم التعدد يفتقر إلى دليل وهذا غريب عجيب، فقال: إن مقتضى اشتراط العدالة اعتبار حصول العلم بها، والبينة تقوم مقام العلم شرعاً، وما سوى ذلك يتوقف الاكتفاء به على الدليل.

وفيه: تمت الأدلة التي دلت على حجية الظن الحاصل من خبر الثقة، وعدم اعتبار خصوص العلم، أو ما يقوم مقام العلم كالبينة الشرعية، ولذا تثبت الموضوعات بخبر العدل الواحد بل مطلق الثقة من دون حاجة إلى تعدد، وتفصيل هذا البحث في مباحث علم الأصول.

المبنى الثالث ثبوت حجية قول الرجالي من باب الفتوى والخبروية.

فعلى هذا القول نرجع إلى الرجالي من باب رجوع الجاهل إلى العالم، ومن باب رجوع غير المختص إلى أهل الاختصاص.

ومن الواضح أن المراد بالفتوى في العنوان ليس هو المعنى الاصطلاحي الخاص وهو مرجع التقليد الذي يشترط فيه العدالة، بل المراد به ضرب مثالٍ لأهل الاختصاص.

وهناك ثلاثة شروط في الرجوع إلى أهل الاختصاص:

الشرط الأول أن يكون الراجع جاهلاً لا عالماً.

الشرط الثاني أن لا يوجد طريق يوجب العلم وتحصيل العلم غير قول غيره، فإذا أمكن هذا الجاهل أن يحصل العلم واليقين والقطع فإن السيرة العقلائية قاصرة حينئذ عن إثبات حجية قول أهل الخبرة.

مثلاً: لو مريض من المرضى وبه علة وأراد الرجوع إلى الطبيب، لكنه استطاع القطع بمرضه أو علاجه من دون الرجوع إلى أهل الخبرة، كما لو كان هناك نبي أو وصي أو مجموعة قرائن توجب القطع واليقين فحينئذ لا يرجع إلى قول أهل الخبرة ما دام قاطعاً وعالماً فالرجوع إلى أهل الخبرة فرع انتفاء تحصيل العلم.

الشرط الثالث أن يكون لرأي أهل الخبرة أثرٌ شرعي قابل للتنجيز والتعذير إذ أننا لا ندرس أي خبر لأننا ندرس الأخبار في الشريعة الغراء أي الأخبار التي لها أثر يوجب التنجيز أي دخول التكليف في الذمة والعهدة أو التعذير خروج التكليف من الذمة أو العهدة.

وقد ذكر صاحب الكفاية _{رحمه الله} أن القدر المتيقن من الرجوع إلى أهل الخبرة هو في ما أفاد خبره الوثوق والاطمئنان، وأما فيما عدا ذلك فلا نكاد نحرز السيرة، وهذا الشرط لا بأس به، إذا شخص مريض ويذهب إلى الطبيب لو كان اعلم العلماء إذا كلام الطبيب ما أورث الوثوق والاطمئنان عند المريض لا يقدم هذا المريض، فالسيرة العقلائية القائمة على حجية قول أهل الخبرة والرجوع إليهم فيما إذا أفاد قول أهل الخبرة الوثوق والاطمئنان.

هذه شروط ثلاثة، إذا أردنا أن نرجع إلى هذه الثلاثة، أما الشرط الأول وهو أن يكون الراجع جاهلاً فهذا متحقق فينا نحن الذين ليس لدينا معرفة بالرجال وتوثيقاتهم وتضعيفاتهم، وأما بالنسبة إلى الشرط الثالث وهو أنه لابد أن يكون لرأي أهل الخبرة في مورد الرجوع أثر شرعي قابل للتنجيز والتعذير فهذا أيضاً واضح لا غبار عليه إذ أن الغرض من ملاحظات كلمات الرجاليين هو معرفة من يمكن قبول روايته ومن لا يمكن قبول روايته.

يبقى الكلام في الشرط الثاني وهو أن لا يكون هناك طريق يوجب تحصيل العلم فإذا أمكن تحصيل العلم أو الوثوق والاطمئنان فلا تصل النوبة إلى خبر أهل الخبرة، وهناك توهم قد يحصل لدى البعض وهو أن إخبار الرجوع إلى أهل الخبرة خاص بخصوص الإخبارات الحدسية الاجتهادية كالطب والهندس ولا يشمل الأخبار الحسية.

والصحيح خلاف ذلك، نعم أكثر كلمات أهل الخبرة هي في الأمور الحدسية، ولكن هناك إخبارات حسية، مثل: إخبارات اللغويين، فمثلاً: كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي وهو أهل الخبرة أهل الاختصاص لكنه ذهب إلى البادية ونقل ما سمعه من كلام العرب في معاني المفردات اللغوية.

إذاً حجية قول أهل الخبرة لا يختص بخصوص الأخبار الحدثية بل يشمل أيضاً الأخبار الحسية. نعم، إذا أمكن تحصيل الوثوق والاطمئنان فلا حاجة إلى الرجوع إلى أهل الاختصاص. نعم، تكون كلمات أهل الاختصاص تشكل قرينة إثبات ناقصة توجب الوثوق والاطمئنان، أي أن كلام أهل الخبرة مع تراكم القرائن يشكل قرينة أو عدة قرائن من القرائن التي تقتضي حصول الاطمئنان والوثوق.

المبنى الرابع والأخير حجية قول الرجالي من باب حجية الظنون والانسداد وهو ما ذهب إليه صاحب القوانين الميرزا القمي وصاحب الفصول الشيخ محمد حسين الغروي للانسداد الصغير أو دعوى حجية الظنون الرجالية الخاصة.

وقلنا يوجد انسداد كبير وهو الانسداد في الأحكام الذي ذهب إليه الميرزا القمي صاحب القوانين، ويوجد انسداد صغير وهو انسداد في خصوص باب التوثيقات الرجالية أو في خصوص المباحث اللغوي.

والصحيح: عدم تمامية دليل الانسداد فهو مبني على مقدمات:

المقدمة الأولى أن الانسان لم يخلق سدى.

المقدمة الثانية نحن نعلم إجمالاً بتوجه تكاليف إلينا، وهذه المقدمة تامة.

المقدمة الثالثة وباب العلم والعلمي منسد بالنسبة إلى أكثر التكاليف ونحن ننكر هذه المقدمة.

فصحيح أن باب العلم أي القطع واليقين الحقيقي منسد بالنسبة إلى أكثر الأحكام، عندنا علم ويقين بضروريات الدين وأصول التشريع، أما تفاصيل التشريع فلا طريق لليقين والقطع بها، لكن باب العلمي مفتوح، والمراد بـباب العلمي أي الظن الخاص الذي قام على حجيته دليل علمي وقطعي ويقيني، ومن أبرز مصاديقه حجية خبر الواحد الثقة، فإن حجية خبر الواحد الثقة قامت عليه أدلة قطعية تدرس في علم الأصول، فهو دليل علمي، فإذا باب العلم مفتوح.

إذا باب العلم مفتوح ما عدنا انسداد في الوصول إلى الواقع فلا تصل النوبة إلى المقدمة الأخيرة، إذا مطلق الظن حجة في الأحكام كما يقول صاحب القوانين، أو خصوص الظن الحاصل من قول الرجالي أو اللغوي حجة، فلا نلتزم بحجية مطلق الظن ومطلق الظنون بل نلتزم بحجية خصوص الظنون الخاصة التي دل على اعتبارها دليل علمي وقطعي، ومن أبرزها خبر الواحد الثقة.

فتكون النتيجة أن مدرك حجية قول الرجال ما قال به المشهور وهو حجية خبر الواحد الثقة، أو إذا التزمنا بمبنى المتقدمين وهو حجية الخبر الموثوق، فحينئذ لابد من تحصيل الوثوق والاطمئنان ومن أبرز القرائن التي توجب الوثوق والاطمئنان خبر الواحد الثقة.

فإذا نحن بحاجة إلى خبر الثقة إما أن يكون له تمام الموضوعية أو يكون طريقاً إلى حجية الخبر الموثوق، ولا نلتزم بأن حجية قول الرجالي من باب حجية قول أهل الخبرة، إذ هناك مناقشة في هذا الدليل وتفصيله يبحث عند البحث عن قول النحوي أو حجية قول أهل الخبرة أو حجية الفتوى في علم الأصول.

ولا نلتزم بحجية قول الرجال من باب الانسداد أو من باب الشهادة أو من باب .. فلا نلتزم بحجية قول الرجال من باب حجية الظنون والانسداد أو من باب الشهادة أو من باب حجية الفتوى وقول أهل الخبرة، بل من باب حجيات خبر الثقة.

هذا تمام الكلام في مدرك حجية قول الرجال، فإذا تم هذا المدرك يمكن قبول توثيقات المتقدمين لجريان أصالة الحس فيها، فهل يمكن قبول توثيقات المتأخرين؟ هذا ما سنبحث في الدرس القادم حجية توثيقات المتأخرين، يأتي عليها الكلام وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين