بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 الحديث السابع من الأدلة الروائية على مشروعية الجهاد الابتدائي

الحديث السابع من الأدلة الروائية على مشروعين الجهاد الابتدائي ما رواه أبو بصير قال: «قلت لأبي عبد الله _{عليه السلام} أي الجهاد أفضل؟ فقال: من عقر جواده وأريق دمه في سبيل الله»[1].

[الإسناد]

روى هذا الحديث محمد بن يعقوب الكليني عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن عن علي بن النعمان عن سويد القلاء عن سماعة عن أبي بصير كل هؤلاء ثقات أجلاء، والحديث موثق بسماعة إن التزمنا أنه واقفي، والصحيح أنه ليس واقفياً، وإن ذكر الصدوق _{رحمه الله} أنه واقفي، لكن هذا اشتباه وقد تبعه الشيخ الطوسي _{رحمه الله}.

ومنشأ الاشتباه عند الصدوق أن الواقفة رووا عن زرعة عن سماعة حديث الوقف، فتوهم كون سماعة أيضاً واقفياً، ولم يشر إلى وقفه الكشي، ولا الغضائري مع أن الغضائر شديد فيما يتعلق بالغلو والوقف ويكثر الجرح، فهذه الرواية إما موثقة أو صحيحة.

[الدلالة]

هذا الحديث لا يدل لا على الوجوب ولا على سنخ الوجوب، فهذا الحديث ليس في مقام البيان من جهة سنخ الوجوب حتى يتمسك بإطلاقه لكي يشمل الجهاد الابتدائي، بل الحديث في مقام الكلام عن المحبوبة لله عزّ وجل وعن أفضل مرتبة في الجهاد، وهي أن يعقر الجواد، أي تقتل الدابة يقاتل عليها، وأن يراق دم المسلم في سبيل الله أي ينال الشهادة، فالحديث أجنبي عما نحن بصدده.

الحديث الثامن رواية طويلة وهي ما رواه الحسن بن محبوب عن بعض أصحابه قال: «كتب أبو جعفر _{عليه السلام} ـ الإمام الباقر ـ في رسالته إلى بعض خلفاء بني أمية» وهذه الرسالة عتاب من الإمام الباقر إلى سلطة بني أمية التي كانت تحكم باسم الإسلام لكنها لم تجري على وفق قوانين الإسلام، والإمام _{عليه السلام} في هذا الحديث يبين بعض هذه المصاديق، وجاء في هذه الرسالة ما نصّه:

«ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضله الله عزّ وجل على الأعمال، وفضل عامله على العمال تفضيلاً في درجات والمغفرة»، وفي نسخة «والرحمة، لأنه ظهر به الدين، وبه يدفع عن الدين، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة بيعا مفلحاً منجحاً اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله، من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد، فمن دعي إلى الجزية فأبى قتل وسبي أهله وليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله، ومن أقر بالجزية لم يتعدى عليه ولم تغفر ذمته، وكلف دون طاقته، وكان الفيء للمسلمين عامة غير خاصة، وإن كان قتال وسبي سير في ذلك بسيرته، وعمل فيه في ذلك بسنته من الدين، ثم كلف الأعمى والأعرج والذين لا يجدون ما ينفقون على الجهاد بعد عذر الله عزّ وجل إياهم، ويكلف الذين يطيقون ما لا يطيقون، وإنما كان أهل مصر» وفي نسخة «وإنما كانوا أهل مصر يقاتل من يليه يعدل بينهم في البعوث فذهب ذلك كله حتى عاد الناس رجلين أجير ومؤتجر بعد بيع الله ومستأجر صاحبه غارم بعد عذر الله، وذهب الحج وضيع، وافتقر الناس فمن أعوج ممن عوج هذا، ومن أقوم ممن أقام هذا، فرد الجهاد على العباد إن ذلك خطأ عظيم»[2].

[الإسناد]

رواه محمد بن يعقوب الكليني عن محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي عن الحسن بن محبوب كلهم ثقات أجلاء، هن بعض أصحابه فالرواية مرسلة فتسقط عن الاعتبار، إلا إذا بنينا على دعوى أصحاب الإجماع، والحسن بن محبوب أحد أصحاب الإجماع الثمانية، فإذا قلنا إن كل من روى عنه أصحاب الإجماع فهو ثقة فهنا يمكن قبول هذه المرسلة لأن الراوي هو الحسن بن المحبوب وهو أحد أصحاب الإجماع.

لكننا لا نبني على ذلك وتفصيله في علم الرجال، وقد أوضحنا أن المستفاد أن هؤلاء الثمانية عشر هم في غاية الجلالة والوثاقة ويمتازون عن غيرهم بأن العصابة والطائفة قد أجمعت على وثاقتهم وجلالة قدرهم بخلاف غيرهم.

الرواية ضعيفة بالإرسال.

[الدلالة]

ظاهر هذه الرسالة أنها انتقاد من الإمام الباقر _{عليه السلام} لسياسة خلفاء بني أمية، فهم حرفوا الجهاد، ونقلوا الجهاد من كونه للدعوة إلى الله والدفاع عن الدين إلى حرب استعمارية لمصالح شخصية أو آنية أو للسيطرة على بلدان أخرى.

وهذه الرواية لا تخلو من نقص وتشويش واضطراب، ولنذكر بعض العبارات التي يمكن التأمل فيها ويمكن توجيهها العبارة الأولى قوله _{عليه السلام} : «ومن ذلك» التي ابتدء بها الحديث فهي تشير إلى شيء غير معلوم فكأنما هناك عبارة سابقة على هذه العبارة، كان نقدر ونفترض هذا الكلام ونقول: «إنكم يا بني أمية قمتم بأعمال مخالفة للشرع منها كذا وكذا» ومن ذلك ما بدأ به هذه الرواية.

العبارة الثانية قوله _{عليه السلام}: «فضله الله على الأعمال» فقد يفهم منها أن الجهاد أفضل من جميع أعمال الدين الشامل لمثل الصلاة التي هي عمود الدين، ومقتضى هذه الأفضلية تقديم الجهاد على الصلاة عند التزاحم وهذا لا يمكن قبوله.

ولكن قد يتأمل إذ أن الإمام لم يقل «الجهاد أفضل الواجبات أو أفضل الأعمال» وإنما ذكر أن الله قد فضل الجهاد على الأعمال فهو له فضيله وله امتياز ولم يقل جعله أفضل الأعمال، فهذه العبارة لا تثبت كون الجهاد أفضل من الصلاة والصوم وغير ذلك. نعم تثبت أن له فضيلة وامتياز.

العبارة الثالثة قوله _{عليه السلام} : «وإن كان قتالٌ وسبي سير في ذلك بسيرته» ومرجع الضمير مجهولون، ثم قال الشيخ شمس الدين[3] _{رحمه الله} : «وكل ما يفرض له لا يخرج عن كونه تكهنكً لا أثر له».

وفيه: إن هذا الكلام ليس بتام إذ أن كل من يقرأ الرواية يرى أن من الواضح أن المراد به أبو القاسم محمد _{صلى الله عليه وآله} وأن الضمير يرجع إلى النبي _{صلى الله عليه وآله} إذ الرواية استخدمت مفردات تستخدم عادة في حق النبي كمفردات السيرة ومفردات السنة، قال _{عليه السلام} : «وإن كان قتال وسبي سير في ذلك بسيرته وعمل فيه في ذلك بسنته من الدين» ومن الواضح أن المراد بسنة النبي من الدين الإسلامي فمرجع الضمير واضح لا غبار عليه.

كما أن الملاحظة الثانية التي أوردها الشيخ شمس الدين وهو لزوم كون الجهاد أفضل من الصلاة لا نسلم بها وهذا صحيح فالرواية تفيد وجود فضيلة وامتياز للجهاد ولا تفيد أنه أفضل الواجبات.

العبارة الرابعة قوله _{عليه السلام} : «وإنما كانوا أهل مصر» وفي نسخة «وإنما كانوا أهل مصر يقاتل من يليه يعدل بينهم في البعوث» قد يقال هذه العبارة فيها خطأ في التركيب وهو ناتج من سقط في الكلام، فلعله هكذا النص «وإنما كان أهل مصر يعدل واليهم بينهم».

العبارة الخامسة قوله _{عليه السلام} : «ومستأجر صاحبه غار بعد عذر الله» لا يظهر لها معنى واضح هكذا يقول شمس الدين، لكن إذا رجعنا إلى المجلس _{رحمه الله} في مرآة العقول فإنه قد ذكر وجهاً لذلك وهو أن رجلاً من المسلمين لو لم يجب عليه الجهاد وكان غارماً وفرض بنو أمية عليه الجهاد والقتال فاستأجر شخصاً للنيابة عنه، فهذا المستأجر للجهاد والقتال يصدق على هذه العبارة «ومستأجر» يعني ومقاتل مستأجر قد تم استئجاره «من صاحبه الذي هو غارم بعد عذر الله لصاحبه» يعني صاحبه معذور لا يجب عليه القتال أجبروه على القتال، فلكي ينجو بنفسه اضطر إلى أن يستأجر من يقاتل بالنيابة عنه.

ومثل هذه الأمور حصلت كثيراً في تاريخ بني أمية.

عموماً كيف كان مضافاً إلى ضعف واضطراب المتن ليس في هذه الرواية ما يصلح للاستدلال به على المدعى وهو وجوب الجهاد الابتدائي وغاية ما تدل عليه هذه الرواية مشروعية الجهاد ورجحان الجهاد وفضله إذا وقع بشروطه.

إن قلت: هذا الانتقاد العنيف الموجه إلى بني أمية على تعطيل الجهاد أو عدم القيام به على وجهه في عبارات قاسية كقوله _{عليه السلام} : «إن ذلك خطأ عظيم» لا يناسب كون كون الجهاد في مرتبة الاستحباب.

قلت: إن الانتقاد ليس موجهاً إلى تعطيل الجهاد أو عدم القيام به، وإنما الانتقاد موجه إلى تحريف الجهاد والأعمال المحرمة التي قام بها خلفاء بني أمية بعنوان الجهاد من قبيل الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله، بدل الدعاء إلى طاعة الله الدعاء إلى طاعة الخليفة الذي هو عبد من عباد الله، ومن قبيل ثم كلف الأعمى والأعراج والذين لا يجدون ما ينفقون على الجهاد بعد عذر الله إياهم، ويكلف الذين يطيقون ما لا يطيقون يعني الذين يقدرون يكلفهم بما لا يقدرون عليه هذه كلها محرمة.

وأيضاً هناك بعض الممارسات تعبر عن مخالفات للعدل والشرع كقوله _{عليه السلام} : «ومن أقر بالجزية لم يتعدى عليه ولم تغفر ذمته» بعد تحفظ ذمته هو في عهدة الإسلام والمسلمين يحفظ ماله ودمه وعرضه، وفي هذا إشارة إلى عدم التزام خلفاء بني أمية بالعدل في أهل الذمة لأن غرض خلفاء بني أمية كان جمع الأموال من جهة واحتقار وإهانة غير العرب من جهة أخرى، بل كانوا حتى بين العرب يفرقون بين القبائل هذا من بني أمية ومن قريش أو من غيرها، وكانوا يفرق بين العرب والموالي والعبيد.

ومن قبيل قوله _{عليه السلام} : «وكان الفيء للمسلمين عامة غير خاصة» وهو إشارة إلى استئثار خلفاء بني أمية بالأموال العامة وموارد الدولة.

ومن قبيل قوله _{عليه السلام} : «وإنما كان أهل مصر يقاتل من يليه يعدل بينهم في البعوث» يعني في المبعوثين، إشارة إلى إجبار على المشاركة في الحملات العسكرية وإعفاء القبائل المقربة من الخدمة الدائمة في الأسقاع بعيداً عن أهلهم وديارهم، يرسلون في الفتوحات إلى إفريقيا المستضعفة وأما القبائل المقربة يبقونهم في المدينة، وهو ما بدأه عثمان بن عفان بإشارة من عمرو بن العاص.

ومن قبيل قوله _{عليه السلام} : «فرد الجهاد على العباد وزاد الجهاد على العباد» يعني بدل أن يرد الجهاد على المعبود وهو الله تبارك وتعالى وأن يقتصر على ما قرره الشرع بالنسبة إلى الجهاد.

هذه كلها مظالم واعتداءات مخالفة للشرع والانتقاد منصب على هذه الأعمال المحرمة، نعم يمكن أن يستظهر وجوب الجهاد الابتدائي من مقطع فيه هذه الرواية الشريفة، فتستفاد مشروعية الجهاد الابتدائي من قوله _{عليه السلام} : «لأنه ظهر به الدين وبه يدفع عن الدين» فإن الجهاد الذي يدفع به عن الدين هو الجهاد الدفاعي والجهاد الذي ظهر به الدين هو الجهاد الابتدائي، وهو جهاد من أجل الدعوة إلى الله وإظهار الدين.

وناقش الشيخ شمس الدين _{رحمه الله} نافياً ظهور قوله _{عليه السلام} : «ظهر به الدين» في الدلالة على الجهاد الابتدائي، فقال: إن ظهور الدين كان بالدعوة لا بالجهاد، وما ظهر من الدين بالجهاد كان بالجهاد الدفاعي الذي تجب فيه الدعوة قبل إنشاب الحرب مع العدو، وهذا كما يقال: إن فلاناً أظهر الحقّ في رده على المخالف والملحد، فإظهار الدين لا ينحصر بالابتدائي، بينما قوله: «وبه يدفع عن الدين» نصّ في الدفاع فيحمل الظاهر على النص، ولا أقل من الإجمال فيسقط عن الاستدلال.

أقول: من الواضح أن قوله _{عليه السلام} لأن الجهاد ظهر به الدين يشمل الجهاد الابتدائي، وظهور الدين لا يختص بخصوص الجهاد الابتدائي، فظهور الدين كما يشمل الجهاد الابتدائي يشمل أيضاً الجهاد الدفاعي. نعم قوله _{عليه السلام} : «وبه يدفع عن الدين» نص في الجهاد في الدفاع، وأما ما يظهر به الدين كما يشمل الجهاد الابتدائي يشمل أيضاً الجهاد الدفاعي.

إلا إذا قيل أن الإمام _{عليه السلام} ليس في مقام البيان من جهة سنخ الوجوب وأن هذا الجهاد ابتدائي أو دفاعي بل كان في مقام بيان أصل مشروعية الجهاد وثمار الجهاد، ومن ثمار الجهاد أن به يدفع عن الدين وبه يظهر الدين.

وبالتالي يقال هذا المقطع ليس ظاهراً في خصوص الجهاد الابتدائي.

وإن قيل: أنه يتمسك بالإطلاق.

فيقال إن الإمام _{عليه السلام} ليس في مقام البيان من جهة سنخ وجوب الجهاد، فلا يمكن التمسك بالإطلاق حينئذ.

النتيجة: هذه الرواية ضعيفة سنداً، مضطربة دلالةً، ويمكن أن يستشعر من هذه العبارة «لأنه ظهر به الدين» يستشعر منها مشروعية الجهاد الابتدائي من دون أن ترقى إلى مرتبة الظهور فضلاً عن النص.

إن قلت: ما يظهر من الحديث في الدلالة على وجوب الجهاد الابتدائي، هو قوله: «وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد» فإن هذا يقتضي أن الجهاد لأجل الدعوة وليس هو سوى الابتدائي.

قلت: إن هذا لازم أعم لأننا نذهب إلى أن الجهاد الدفاعي تجب فيه الدعوة إلى الإسلام قبل القتال وقبول الكفار للإسلام ودخولهم فيه أو قبولهم بالذمة وشروطها أو بالجزية أو بأية تسوية ينهي حالة الحرب معهم.

على كل حال هذا المقطع لا يظهر منه وجوب أو مشروعية الجهة الابتدائي، والله العالم.

إلى هنا ثمانية أحاديث لم يظهر من أي منها مشروعية أو وجوب الجهات الابتدائي، هذا الثامن فيه إشعار.

الحديث التاسع يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين