التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

18 - العبادة والخضوع

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

04

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 العبادة والخضوع

 

قال تعالى: «إياك نعبد وإياك نستعين» تطرقنا أولاً إلى العبادة والتأله، وثانياً إلى العبادة والطاعة، اليوم نتطرق ثالثاً إلى العبادة والخضوع، ولا شكّ ولا ريب أن المخلوق، إنما يخضع لخالقه فلابدّ أن يتذلل لخالقه وبارئه، وهذا ما حكم به العقل وندب إليه الشرع.

إذا عندنا أمران:

الأول خضوع المخلوق للخالق.

الثاني خضوع المخلوق للمخلوق.

ومن الواضح أن خضوع المخلوق للخالق راجحٌ، بل لازم بحكم العقل والشرع، فما هو حكم خضوع المخلوق لغير الخالق من المخلوقين؟

الجواب: الخضوع والتذلل للمخلوق على أقسام:

القسم الأول الخضوع لمخلوق من دون إضافة ذلك المخلوق إلى الله بإضافة خاصة.

مثال ذلك: خضوع الولد لوالده، خضوع الخادم لسيده، خضوع المتعلم لمعلمه، خضوع الصغير لمن هو أكبر منه سناً، وهكذا في الاجتماع الإنساني ستجد أن هناك عادات وتقاليد فيها يخضع المخلوق لغير الخالق، ولا ينسب الخضوع بنسبة خاصة إلى الخالق، ولا شك ولا ريب في جواز ذلك الخضوع ما لم يرد فيه نهي بالخصوص.

فقد ورد النهي عن السجود لغير الله، وأن السجود خاص بالله تبارك وتعالى، إلا إذا أمر هو بالسجود لغيره، كما حصل بالنسبة للملائكة إذ أمرهم أن يسجدوا لآدم وإلا فالأصل هو عدم السجود لغير الله.

وأما ما عدا السجود من سائر أنواع الخضوع فحينئذ بالنسبة إلى القسم الأول يجوز هذا الخضوع ما لم يرد فيه نهي خاص، ومن الواضح أن الخضوع للأب أو الأم أو كريم القوم أو السابق في الدين ليس فيه أدنى شائبة للشرك، وقد قال عزّ من قائل بالنسبة إلى الأبوين: «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» فلو كان هذا الذل والخضوع للوالدين شرك أو عبادة لما أمر الله به، أفهل يأمر الله بعبادة الوالدين؟! حيث أمر بالتذلل لهما، مع أن الله عزّ وجل قد نهى عن عبادة من سواه، قال تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا».

وخفض الجناح من الذل أمر فطري تفعله حتى صغار الطيور بل بعض الحيوانات، أنا لاحظت في فيديو شخص أنقذ حيوان فجاء الحيوان وخضع أمام هذا الإنسان لشكره هذا أمر فطري، فهذا الخضوع هو نوع من الإحسان الذي أمرت به الآية الكريمة وجعلته مقابلاً للعبادة، إذا ليس كل خضوع تذلل لغير الله يشكل شركاً بالله تبارك وتعالى.

القسم الثاني الخضوع للمخلوق باعتقاد أن له إضافة خاصة إلى الله يستحق من أجلها الخضوع، لكن العقيدة باطلة، ويكون هذا الخضوع بغير إذن الله كما هو الحال بالنسبة إلى عبدة الأوثان وأهل الأديان والمذاهب الفاسدة فهم يخضعون لرؤسائهم، ولا شك أنه إدخال ما ليس في الدين بالدين، وهذا هو تعريف البدعة.

فمعنى البدعة هو إدخال ما ليس في الدين بالدين فيكون تشريعاً محرماً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل، قال تعالى: «فمن اظلم ممن افترى على الله كاذبا» وأكثر عبدة الأوثان لا يعتقدون تعدد الذات الإلهية وتعدد الآلهة بل يعتقدون أن الذات الإلهية واحدة وأن الإلهة متعددة، فهذا الصنم إله المطر، وهذا الصنم إله الرياح وهذا الصنم إله الخير، وهذا الصنم إله الشر، فهم يعتقدون أن الذات الإلهية واحدة وقد فوضت هذه الأمور إلى الآلهة فهم يعتقدون نحو نسبة وإضافة بين المخلوق والخالق، وهذه الإضافة الخاصة لم تثبت فالعقيدة باطلة وهذا الخضوع غير مأذون من قبل الله عزّ وجل فالقسم الثاني من الخضوع باطل عاطل ومحرم.

القسم الثالث الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر الله وإرشاده، كما في الخضوع للنبي صلى الله عليه وآله ولأوصيائه الأئمة الطاهرين عليهم أفضل صلوات المصلين والخضوع لأنبياء الله وكتبه وملائكته ورسالاته، بل الخضوع لكل مؤمن أو كل ماله إضافة إلى الله توجب له المنزلة والحرمة كالخضوع للقرآن الكريم، والمسجد، والحجر الأسود، وغيرها من الشعائر الإلهية، وهذا القسم محبوب لله، بل هذا الخضوع إنما يكون بأمر الله، قال تعالى: «فسوف يأتي الله بقوم يحبهم يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين».

وفي الحقيقة الخضوع للمخلوق في القسم الثالث فرع الخضوع لله تعالى فهو لا يخضع للمخلوق في عرض الخضوع لله وفي مقابل الخضوع لله، بل يخضع للمخلوق في طول وفي فرع الخضوع لله تبارك وتعالى، فهو إظهار لعبودية الله، فإخوة يوسف حينما سجدوا ليوسف بأمر الله، فهذا السجود فرع طاعة الله تبارك وتعالى.

فمن يخضع للمخلوق لا يعتقد أن المخلوق يحيي ويميت ويرزق ويقبض ويبسط بل العبد يعتقد أن جميع هذه الصفات الحسنى ثابتة لله، ويعتقد أن الله تبارك أمر بإكرام عباده المكرمين كالنبي وأوصيائه الصالحين، قال تعالى: «عبادٌ مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون».

فالمؤمن حينما يتوسل بالأئمة ويتخذهم شفعاء فهذا من باب تعظيم مقامهم وشأنهم الذي أمر الله به، قال تعالى: «ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب».

ولقد علم كل مسلم أن النبي كان يقبل الحجر الأسود ويستلمه بيده إجلالاً لشأنه وتعظيماً لأمره، فقد جاء في الرواية عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر، فقال: «لولا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك».

وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يزور قبور المؤمنين والشهداء والصالحين ويسلم عليهم ويدعو لهم، فقد في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله : «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور والآن أمركم بها فإنها ترقق القلب وتذكر بالآخرة».

وعلى هذا جرت الصحابة والتابعون خلفاً عن سلف كانوا يزورون قبر النبي ويتبركون به ويقبلونه ويستشفعون برسول الله كما كانوا يستشفعون به في حياته، قال تعالى: «ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً»، وتقول في زيارة يوم السبت: «وأنا اعلم أن حرمتك ميتاً كحرمتك حياً».

وهكذا كان يفعل الصحابة مع قبور أئمة الدين وأولياء الله الصالحين وكانت الزهراء تزول قبر الحمزة، بل إن النبي حينما مرّ على بيوت الأنصار وهم يبكون على قتلاهم، فقال: «إلا عمي الحمزة لا بواكي له» فأمر بالبكاء على الحمزة سلام الله عليه.

هذه سيرة مستحكمة من عهد الصحابة إلى التابعين إلى أن ظهر ابن تيمية، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني، فحرم شد الرحال إلى زيارة القبور وتقبيلها ومسها والاستشفاع بمن دفن فيها حتى أنه شدد النكير على من زار قبر النبي صلى الله عليه وآله أو تبرك به بتقبيل أو لمس وجعل ذلك من الشرك الأصغر تارة ومن الشرك الأكبر أخرى.

وهنا نكتة لا بد أن نشير إليها تهم الباحث في التاريخ والعقيدة ومن يرقى المنبر للخطابة، فنحن بحاجة إلى دراسة أثر إليهود ونفوذهم في المجتمعات خصوصاً المجتمع الإسلامي، فمن يقرأ التاريخ يجد أن ابن تيمية قد درس عند يهودي، وهكذا نجد يزيد بن معاوية ومعاوية بن أبي سفيان قد اتخذ مستشاراً وهو سرجون وأصل اسمه ياسر بن جون، وهو من اليهود.

بل إلى يومنا هذا نجد بعض قادة الدول العربية في زمننا هذا بعضهم يهود، وبعضهم قد تتلمذ وتربى على يد إليهود، ولا أريد أن اُصرح بالأسماء لأن البحث في التفسير وليس في السياسة.

ولكن من يقرأ تاريخ المدينة وحركة عبد الله بن أبي سلول زعيم المنافقين في المدينة وتحالفه مع يهود المدينة من ومشركي قريش من جهة أخرى يجد أن إليهود على امتداد عمود التاريخ كان هذا دأبهم وديدنهم وهو نخر عظام المجتمع من الداخل عن طريق الجواسيس وعن طريق التلون، فماذا فعل كعب الأحبار؟أ وعكرمة ومجاهد؟! وهذه كلها لهم روايات، عكرمة ومجاهد وكعب الأحبار عندهم روايات تفسيرية وروايات في التاريخ وروايات في العقائد.

فمن يبحث في تاريخ إليهود ونفوذهم وجواسيسهم وتغلغلهم وتلونهم في المجتمع الإسلامي وغيره يجد أن الكثير من الاتجاهات الفكرية التي غلفت بغلاف ديني منشأها اليهود لهدم الدين.

أنت تصور عائلة قرابة مئتين وخمسين سنة يقتل منها أربعة عشر فرداً بنحو التناوب من النبي صلى الله عليه وآله إلى المهدي الذي سيقتل بعد ظهوره على يد يهودية، فلابد من بحث دور اليهود في محاربة النبي وأهل بيته.

قال تعالى: «لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى».

وهذا بحث تاريخي ما نريد ندخل فيه الآن سبحان الله جاء كجملة معترضة، يحدثنا التاريخ أن النبي صلى الله عليه وآله لما خرج مع عمه أبو طالب للتجارة إلى الشام ومروا على مقر الراهبة، فهذا الراهب دعا أبا طالب ومن معه فجاؤوا للطعام.

فقال الراهب: يوجد طفل صغير لم تحضروه، والراهب كان أساس الدعوة، وهو هذا الطفل الصغير.

فقال: نعم إنه بالدار.

قال: احضروه لأن الراهب رأى أن الغمامة تمشي مع هذا الولد، ثم اختلى الراهب بأبي طالب، وقال له: يا أبا طالب هذا الصبي هو النبي الخاتم، وهو نبي هذه الأمة، ثم أوصاه وقال: احذر عليه من اليهود قتلة الأنبياء.

عموما كلامنا في ابن تيمية وهو أستاذة القاضي وكان يهودي، ولما رأى علماء عصر ابن تيمية أنه قد خالف في رأيه الدين وضرورة المسلمين لأنهم رووا فضل زيارة المؤمنين وزيارة النبي قال صلى الله عليه وآله: «من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي»، وروايات كثيرة.

والذي أوقع ابن تيمية في الغلط إن لم يكن عامداً، ولعله بتوجيه اليهود هو تخيله أن هذه الأمور المذكورة شرك بالله وعبادة لغير الله، ولم يدرك أن هؤلاء يعتقدون توحيد الله.

ولعل أبرز مصداق لذلك هو ما قام به فخر الإسلام والتشيع الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين لما حج بيت الله الحرام وأهدى الملك عبدالعزيز آل سعود نسخة من القرآن الكريم، فأخذها الملك عبد العزيز آل سعود المؤسس للمملكة الثالثة وقبل القرآن الكريم.

فقال له السيد عبد الحسين شرف الدين: لا تشرك لماذا تقبل الجلد؟

فقال عبد العزيز آل سعود: أنا لم أقصد تقبيل الجلد أنا قصدت احترام وتعظيم القرآن الكريم.

فقال السيد شرف الدين: كذلك الشيعي حينما يأتي ويقبل الضريح لم يقصد تقبيل الذهب والفضة أو الحديد أو المعدن، وإنما يقصد تعظيم من في القبر.

إذاً التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم ليست شركا بالله، بل هي مصداق لتعظيم شعائر الله، قال تعالى: «ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب».

إلى هنا القسم الثالث الخضوع للمخلوق بأمر من الله في ضمن حدود الله جائزٌ بل راجحٌ.

يبقى الكلام فيما نهى الله عنه، وهو السجود لغير الله، يأتي عليه الكلام وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

00:00

04

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 26 الجلسة

04

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
26 الجلسة