التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

19 - السجود لغير الله

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

07

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 السجود لغير الله

 

بحثنا العبادة والخضوع من وحي سورة الحمد والفاتحة، وذكرنا أن الخضوع لأي مخلوق إذا نهي عنه في الشريعة لم يجز فعله حتى لو يكن ذلك الخضوع على نحو التأله والعبادة، فلو جاء رجلٌ وسجد لقبرٍ أو لشخصٍ أو لمقامٍ ولم يقصد العبادة أي لم يقصد أن هذا القبر إله يعبد من دون الله، ولم يقصد من خضوعه إلا التعظيم، فهذا غير جائز نظراً لأن مثل هذا الخضوع قد نهي عن فالسجود بخصوصه قد نهي عنه.

نعم، لا يجوز رمي هذا الساجد بالشرك فإنه لم يقصد أن هذا القبر يعبد من دون الله ولم يقصد أن هذا الرجل إله يعبد من دون الله، والكثير ممن يقوم بالسجود عنده جهل هو يريد أن يعظم ويقدس صاحب هذا القبر فيسجد له.

وقد ذكرنا أن الخضوع لغير المعصوم لغير الخالق جائزٌ إلا إذا ورد فيه نهي بالخصوص فلو خضعت للقبر وقبلته وتمسحت به فهذا جائز ولم يرد فيه نهي، لكن هناك خصوصية للسجود وهي اختصاص السجود بالله تبارك وتعالى فلا يجوز السجود لغير الله إلا إذا أمر الله بذلك، كما تحقق في أمر الملائكة بالسجود لآدم وسجود يعقوب وأبناءه ليوسف عليه السلام، فقد أجمع المسلمون على حرمة السجود لغير الله تعالى، قال أعز من قائل: «لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون» فإن المستفاد منه أن السجود مما يختص بالخالق ولا يجوز للمخلوق.

قال تعالى: «وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً» وهذه الآية يمكن الاستدلال بها على حرمة السجود لغير الله وعلى اختصاص السجود بالله وحده بناءً على أن المراد بالمساجد ليست المساجد التي يعبد فيها الله، بل المراد المساجد السبعة، وهي: «باطن الكفين، وظاهر الركبتين، وإبهامي الرجلين، والجبهة» وهي الأعضاء التي يضعها الإنسان على الأرض في سجوده، وهذا هو الظاهر يدل عليه المأثور كالرواية عن الإمام الجواد عليه السلام حينما جيء برجل قد سرق وأريد قطع يده فاختلف في الموضع الذي تقطع منه، هل هو من المرفق أو من الزاند؟ وجاؤوا بيحيى بن أكثم وغيره من القضاة، الإمام الجواد قال: «تقطع من رؤوس الأصابع وتبقى الكف» واستدل بقول تعالى: «وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً» والكف من المساجد السبعة فلا يقطع بل تقطع يد السارق من رؤوس الأصابع دون الكهف.

عموماً هذا حكم واضح بين جميع المسلمين سنة وشيعة لا يجوز السجود لغير الله سواء كان نبياً أو وصياً فالسجود من مختصات ربّ العالمين لا يجوز السجود لغيره، وأما ما ينسب إلى الشيعة الإمامية من أنهم يسجدون لقبور أئمتهم فهذا بهتان عظيم وكتب الإمامية منتشرة.

وإن رؤي في بعض مشاهد الأئمة تجد من يأتي ويسجد لقبر الإمام فهذا من جهله هو يريد أن يعظم الإمام ويعتقد أن السجود جائز وهو لا يسجد عبادة القبر أو من في القبر، بل هو يسجد احتراماً وشكراً، وينبغي توضيح هذه المسألة أنه لا يجوز السجود لغير الله، حتى لو كان بنحو خضوع والتعظيم لا على نحو التأليه، هذا غير جائز.

وقد ثبت في الفقه الإمام أنه يصح السجود على ما يصح السجود عليه وهو الأرض وما أنبتته من غير المأكول والملبوس فتسجد على الحجر أو المدر أو الرمل أو التراب وغير ذلك من أجزاء الأرض الأصلية أو على نبات الأرض من غير المأكول والملبوس.

وإذا سجدنا على تربة أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فإنما هو من تعظيم شعائر الله وليس عبادة لهذه التربة أو لسيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه بل لروايات خاصة دلت على فضل تربة الحسين عليه السلام وهذه الروايات مذكورة عند الشيعة وعند السنة.

فعند الشيعة بعض الروايات دلت على أن تربة الحسين عليه السلام تخرق الحجب السبع، وعند السنة أيضاً دلت روايات على فضل تربة الحسين، منها ما رواه أبو يعلى في مسنده وابن أبي شيبة وسعيد عن منصور في سننه عن مسند علي قال: «دخلت على النبي صلى الله عليه وآله ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله أغضبك أحدٌ؟ ما شأن عينيك تفيضان؟

قال: بلى قام من عندي جبرائيل قبل فحدثني أن الحسين يقتل بشط الفرات.

فقال: هل لك إلى أن أشمك من تربته؟

قلت: نعم، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها فلم أملك عيني أن فاضت.

وروى الطبراني في الكبير عن أم سلمة فقال: «اضطجع رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم فاستيقظ وهو خائر النفس، وفي يده تربة حمراء يقلبها، فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبرائيل أن هذا يقتل بأرض العراق ـ يقصد الحسين ـ فقلت لجبرائيل: أرني تربة الأرض التي يقتل بها، فهذه تربتها»[1].

والخلاصة: يجوز الخضوع لغير الله إلا إذا ورد النهي عنه، وقد وردا النهي عن السجود لغير الله، فلا يجوز السجود لغير الله، والشيعة الإمامية إذا سجدوا على تربة الحسين فهم لا يسجدون عبادة للتربة أو للحسين عليه السلام، بل يسجدون قربة لله تبارك وتعالى، وإنما يسجدون على التربة لأنها من سائر أجزاء الأرض التي يجوز ويصح السجود عليها، بل فيها خصوصية وردت روايات شريفة تحث على السجود عليها.

[آراء حول السجود لآدم]

سؤال يطرح نفسه: إذا كان السجود لغير الله حرام فكيف أمر الملائكة بالسجود لآدم وكيف جاز ذلك مع أن السجود لا يجوز لغير الله؟

وقد أجاب العلماء بعدة وجوه:

الرأي الأول أن سجود الملائكة لآدم بمعنى الخضوع وليس بمعنى السجود المعهود، وهذا الرأي ليس بتام إذ أن حمل السجود على الخضوع خلاف الظاهر من لفظ السجود فلا يصار إليه إلا بوجود قرينة والقرينة مفقودة هذا من جهة.

من جهة أخرى عندنا روايات دلت على أن ابن آدم إذا سجد لربّه ضجر إبليس وبكى فهي دالة على أن سجود الملائكة لآدم والذي أمرهم الله به واستكبر عنه إبليس كان بمعنى المعهود بالكيفية المعروفة، ولذلك يضجر إبليس ويبكي من طاعة ابن آدم لله وسجوده، فابن آدم أطاع وامتثل وإبليس عصى وتمرد، إذا الرأي الأول لا يمكن المساعدة عليه حمل السجود على الخضوع.

الرأي الثاني إن سجود الملائكة كان لله وإنما كان آدم قبلة لهم، كما يقال صلى للقبلة أي إلى القبلة، وقد أمرهم الله بالتوجه إلى آدم في سجودهم تكريماً لآدم وتعظيماً لشأنه.

وفيه هذا تأويل ينافي ظاهر الآيات والروايات، بل ينافيه صريح الآية المباركة فإن إبليس إنما أبى عن السجود بإدعاء أنه أشرف من آدم، فلو كان السجود لله وكان آدم قبلة لله لما كان معنى لقول إبليس أأسجد لمن خلق طيناً، نظراً لأنه يجوز أن يكون الساجد أشرف من الشيء الذي يستقبله، من قال إن الشيء الذي يستقبل لا بد أن يكون أشرف من الساجد؟!

قد يكون الساجد.. الآن النبي أوليس بأشرف من الكعبة؟ المؤمن الإمام يخاطب الكعبة ما أبهاك وما أحلاك والله إن المؤمن لأشد حرمة.

إذا الرأي الثاني لا يمكن المساعدة عليه آدم ليس مجرد قبلة والسجود لله كان السجود لآدم.

الرأي الثالث إن السجود حيث كان بأمر من الله تعالى فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له، وبعبارة علمية: إن السجود لآدم في طول السجود لله، يعني أنت تخضع لله والسجود لآدم فرع الخضوع لله لأنه جاء بأمر الله تبارك وتعالى، فما المانع؟!

بيان ذلك:

إن السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع ولذلك خصه الله بنفسه ولم يرخص عباده أن يسجدوا لغيره حتى لو لم يكن السجود بعنوان العبودية والتأليه والربوبية للمسجود له هو غير جائز، لكن إذا كان السجود لغير الله بأمر الله فهو إطاعة وامتثال لأمر وانقياد لحكمه حتى لو كان في صورة التذلل والخضوع للمخلوق، ولذلك يصح عقاب المتمرد على هذا الأمر فعوقب إبليس لتمرده على أمر ولا يسمع اعتذار المتمرد بأنه لا يتذلل للمخلوق ولا يخضع لغير الآمر يصير بعد الملك أزيد من الملك الله عزّ وجل الذي خص نفسه بجواز السجود، قال لك: يجوز السجود لآدم، فما المانع من ذلك؟! فيكون السجود لآدم امتثالاً لأمر الله هذا هو الوجه الصحيح.

فالعبد يجب ألا يرى لنفسه استقلالاً في أموره يطيع مولاه من حيث يرى لا من حيث العبد يرى، لذلك في الدعاء «إلهي أنت كما تريد فاجعلني كما تريد لا كما أريد» أنت تعبد الله من حيث يريد لا من حيث أنت تريد.

وهناك رواية لطيفة عن إبليس نقرأها لا بأس هذه مهمة توضح الحقيقة عن الصادق عليه السلام قال: «قال إبليس: ربّ اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مكرم ولا نبي مرسل، فقال جل جلاله: لا حاجة لي في عبادتك، إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد»[2].

وقال الصادق عليه السلام في جواب سؤال الزنديق «كيف أمر الله الملائكة لآدم إن من سجد بأمر الله فقد سجد لله فكان سجوده لله إذا كان عن أمر الله»[3].

إذا في كل عمل نتقرب به إلى الله تبارك وتعالى لابد من دليل خاص أو عام، وإن لم يرد دليل خاص أو عام على عبادية هذا العمل والتقرب به فلابد من الرجوع إلى القرآن والعترة الطاهرة.

كيف يتحقق الشرك بالله؟

والجواب: إذا نهي عن خضوع خاص لغير الله كالسجود أو النهي عن عبادة خاصة كصوم العيدين صلاة الحائض والحج في غير الأشهر الحرم، فحينئذ كان الآتي به مرتكباً للحرام ومستحقاً للعقاب إذا كان عن عمد، لكن لا يكون ذلك الفعل مشركاً أو كافراً فليس كل من فعل محرم يكون مشركاً أو كافراً بل يكون فاسقاً ويستحق الإثم والعقاب إن جاء به عامداً، والشرك إنما هو الخضوع لغير الله على نحو العبودية، فمن يخضع لمخلوق على أنه إلهه أو ربّه فهذا مشرك أو كافر، أما من يتعمد السجود للقبر الشريف أو لشخص ولا يقصد العبودية فلا يكون مشركاً ولا يكون كافراً ولا يخرج من الإسلام، فبمجرد أن يتشهد الشهادتين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله يكون مسلم.

بل إن الروايات الشريفة دلت على فضل زيارة النبي والروايات متواترة من الفريقين، فكيف يجوز الحكم بشرك من زار قبر النبي وأوصيائه وهو يتشهد الشهادتين؟! قال تعالى: «ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا».

دواعي العبادة، يأتي عليه الكلام وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  مسند أحمد، رقم الحديث 25513.

[2]  تفسير الصافي، عند تفسير قوله تعالى: «فسجدوا إلا إبليس»، ص 26

[3]  البحار، ج 11، ص 183، الباب 2، الحديث 2.

00:00

07

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 26 الجلسة

07

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
26 الجلسة