التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

20 - دواعي-العبادة

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

09

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 دواعي العبادة

 

قال تعالى في سورة الحمد: «إياك نعبد وإياك نستعين».

العبادة فعلٌ اختياري من العبد فلابدّ لها من باعثٍ نفساني يبعث نحو العبادة، وهو أحد أمور ثلاثة:

الأول عبادة التجار.

الثاني عبادة العبيد.

الثالث عبادة الأحرار.

وقد ذكرت هذه الدواعي الثلاثة في حديث أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام إذ جاء فيها: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»[1].

وهذه الدواعي الثلاثة وهي: الرغبة في الجنة أو الخوف من النار أو تعبد الله لأنه أهل للعبادة يمكن الاستدلال عليها من القرآن الكريم.

أما الداعي الأول وهو عبادة التجار أي العبادة طمعاً في إنعام الله وطلباً للأجر والثواب، فيدل عليها قوله تعالى: «ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار» «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم»، فذكر الأجر والطاعة والإيمان والعمل الصالح للحصول على الأجر العظيم.

الداعي الثاني عبادة العبيد فالداعي للعبادة هو الخوف من الله ومن عذابه ومن نار جهنم، قال تعالى: «إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» «إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا».

وأغلب العباد هم من الصنف الأول عبادة التجارة، أو الصنف الثاني عبادة العبيد، وأما الصنف وهو من يعبد الله حقّ معرفته ولأنه أهل للعبادة فهذا لا يصح إلا بالنسبة إلى المعصومين عليهم أفضل صلوات المصلين.

والسر في ذلك:

إن هذا القسم الثالث من العبادة لا يتحقق إلا لمن اندكت نفسيته فلا يرى لذاته وجوداً في مقابل خالقه ليقصد بذاته خيراً أو يحذر لها من عقوبة، وإنما دائماً ينظر إلى صانعه وموجده ولا يتوجه إلا إليه، يعني لا يرى نفسه موجوداً لا يرى إلا وجود واحد وهو الله، ولا يؤثر في الوجود إلا الله، وهذه النظرة لا يصل إليها شخص إلا إذا أخلصه الله، فهو ليس مجرد مخلص بالكسر اسم الفعل بل لا بد أن يكون مخلصاً باسم المفعول بالفتح بحيث لا يقرب منه الشيطان، قال تعالى: «ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين» فالمخلصون هم الأئمة الطاهرون عليهم أفضل صلوات المصلين.

من هذا التقسيم والتصنيف يظهر بطلان قول من أبطل العبادة إذا كانت ناشئة من الخوف أو الطمع واعتبر في صحة العبادة خصوص القسم الثالث وهو أن تكون لله بما هو أهل للعبادة، وهذا القول باطل عاطل لثلاثة أمور:

الأمر الأول عامة البشر لا يتمكنون من الوصول إلى هذه المرتبة، وهي أن يعبد الله لأنه أهل للعبادة من دون طمع ولا خوف، فيكون التكليف بذلك تكليف بغير المقدور، وتكليف بما لا يطاق، ويستحيل التكليف بغير المقدور.

الدليل الثاني نفس الآيات الكريمة أشارت إلى صحة العبادة عن خوفٍ أو طمعٍ، وقد مدح الله وتعالى من يدعوه لخوف أو طمع، قال تعالى في هاتين الآيتين: «تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعا» فأشار إلى الخوف والطمع، وهو في مقام المدح، وقال تعالى: «وادعوه خوفاً وطمعا إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين»، وقال في آية ثالثة: «يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافونه عذابه»، فإذا نصّ الله عزّ وجل في كتابه الكريم على جواز الدعاء والابتغاء إلى الله لخوف أو طمع.

الأمر الثالث الدليل الثالث قد ورد عن المعصومين ما يدل على صحة العبادة إذا كانت ناشئة من خوف أو طمع.

ثم يذكر السيد الخوئي نكتة لطيفة قد أشار إليها مسبقاً وأكدها في هذا الموضع[2]، والكلام في حصر الحمد لله، فتقول: «الحمد لله» أي أن جنس الحمد وحقيقة الحمد تختص بالله، فما هو منشأ اختصاص الحمد بالذات الإلهية.

وقد ذكر السيد الخوئي رحمه الله ثلاثة مناشئ لاختصاص الحمد بالله:

المنشأ الأول إدراك كمال الله الذاتي، فلا توجد ذات كاملة إلا ذات الله، والحمد وهو الثناء على الفعل الاختياري يختص بخصوص الذات الكاملة التي لا يعتريها نقصٌ، وهي خصوص الذات الإلهية.

المنشأ الثاني هو الربوبية والرحمة: قال تعالى: «الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم» فذكر مفردة الربوبية في ربّ العالمين، ومفردة الرحمة في قوله: «الرحمن الرحيم» أي أن مقتضى ربوبية الله للعالم وإدارته للعالم أولاٌ، ومقتضى رحمة الواسعة ثانياً فحيئذٍ يختص الحمد به فقط نظراً لأنحصار الربوبية والرحمة به تبارك وتعالى.

المنشأ الثالث سلطان الله وقدرته، وهو ما أشار إليه تعالى في قوله: «مالك يوم الدين» أي يوم العدل، يوم القيامة، الذي يكون فيه النصف والعدل، فلا بد أن يحمد الله على عدله وقدرته وسلطانه.

فهذه مناشئ العبادة الثلاثة الآن نطبق المناشئ الثلاثة على مناشئ الحمد الثلاثة:

أما المنشأ الأول والداعي الأول للعبادة وهو عبادة الأحرار فمنشأها إدراك العابد لكمال المعبود واستحقاقه للعبادة بذاته، فالمنشأ الأول للحمد هو الكمال الذاتي لله وهو يشير إلى منشأ عبادة الأحرار، فالأحرار يعبدون الله لأنهم وجدوه أهلا للعبادة فعبدوه، أي أنهم لم يجدوا كاملاً ذاتاً إلا الله، فاختص به الحمد أولاً وتحققت عبادة الأحرار ثانياً.

وأما المنشأ الثاني للحمد وهو إدراك إنعام المعبود وإحسانه والطمع في رحمته فهذا هو عبادة التجارة أو عبادة الأجراء.

وأما المنشأ الثالث للحمد وهو إدراك سطوة الله وقهره وعقابه وسلطانه في يوم الدين، فهذا يشير إلى عبادة العبيد.

هذا تمام الكلام في المقطع من قوله تعالى: «إياك نعبد»، ويقع الكلام في المقطع الثاني «وإياك نستعين» حصر الاستعانة بالله.

قلنا إن العبادة محصورة بالله، فحينما قال تعالى: «إياك نعبد» يعني نحصر العبادة بالله، وحينما قال: «وإياك نستعين» يعني نحصر العبادة والاستعانة بالله، ومن هنا نطرح هذا السؤال: هل تصح الاستعانة بغير الله؟

والجواب: نعم يصح الاستعانة بغير الله من المخلوقات أو الأفعال، بل الله عزّ وجل أمرنا بالاستعانة بغيره قال تعالى: «واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين»، وقال تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى»، وقال تعالى: «ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة» فالنبي يطلب العون فكيف نجمع بين حصر الاستعانة بالله وبين الاستعانة بغير الله كالاستعانة بالصبر والصلاة واستعانة النبي بغيره؟

الجواب: ما هو معنى الاستعانة؟

إن كان معنى الاستعانة هو استمداد القدرة للعبادة فهذا مختص بالله وحده، فمن يرد بالاستعانة استمداد أصل القدرة فاستمداد أصل القدرة مختص بالله تبارك وتعالى، وأما إذا أريد بالاستعانة الاستعانة بالآخرين وبالأشياء بعد استمداد أصل القدرة من الله فهذا لا شك ولا ريب فيه، فيصح طلب النبي العون من الآخرين وتصح الاستعانة بالصلاة وبالصوم، لكن بعد الاعتقاد بأن أصل القدرة من الله.

وهذا يقودنا إلى بحث مهم في العقائد وعلم الكلام وهو بحث الأمر بين الأمرين فلا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين بين الجبر والتفويض.

مثلاً: الآن أنا أتكلم، فهل الله أجبرني على الكلام؟ كلا وألف كلا، وهل فوض لي الكلام؟ كلا وألف كلا، ما المراد بالتفويض؟ أن الله يخلق العبد ثم يترك له العنان، ولا يكون لله أي دور، يعني جانب الحدوث فقط، أما جانب البقاء ينتفي، يخلق الخلق ابتداء ثم يوكل أمورهم إلى أنفسهم من دون أن يكون هناك فيض دائم ومستمر لله هذا معنى التفويض.

ذهب الأشاعرة إلى الجبر وذهب المعتزلة إلى التفويض وذهب الإمامية إلى الأمر بين الأمرين لا جبر ولا تفويض.

ولنمثل لذلك للتوضيح، ذكر السيد الخوئي رحمه الله مثالاً، وذكره تلميذه الشيخ محمد حسن المظفر في كتيب العدل الإلهي، وقال السيد الخوئي رحمه الله ضرب مثالاً في درسه فقال: لو أن رجلاً أصيب بالشلل وأصبح عاجزاً عن تحريك يده، لكن ابتكر جهاز إذا وضع على يده فإنه يستطيع أن يحركها، فهنا لو وضع الجهاز على يده وقام هذا المريض بعمل، أنا اضرب الآن مثال: ربما تصدق وربما قتل، فهنا أصل القدرة نشأ من الجهاز، فلو فصل الجهاز آناً ما عن المريض لما استطاع تحريك يده، ولكن كيفية القدرة أي نحو القدرة أنه يوجه هذه القدرة نحو القتل أو التصدق فهذا يرجع إلى إرادة المريض.

مثال آخر: لو وجدت سيارة ليس فيها بنزين وأنا دفعتها وأنت استلمت مقودها فلو أنا انقطع دفعي للسيارة، هل يمكن أن تحرك السيارة؟ كلا وألف، كلا فأصل القدرة على التحريك من الدفع، ولكن نحو القدرة أنها تسير إلى أو اليسار أو الأمام فبيد من يستلم المقود.

إذا تم هذا نقول: أصل القدرة من الله لذلك تنحصر الاستعانة بالله يعني الاستعانة بالله في تحصيل أصل القدرة ولكن نحو القدرة وكيفية استعمال هذه القدرة هذه بيد المكلف، والمكلف إذا قام بشيء هو الذي يتحمل المسؤولية ولكن لا يمكن أن يقوم بالشيء من دون إيجاد أصل القدرة من الله تبارك وتعالى فهذا أمر بين الأمرين.

ومن هنا نعرف السر في تقديم «إياك نعبد» وتأخير «وإياك نستعين» أي إننا نحصر العبادة بك ولأننا نحصر العبادة بك نحصر الاستعانة بك لأنه لا قدرة لنا على العبادة من دون أن تعطينا أصل القدرة.

إذاً ليست بمطلقها تنحصر بالله بل خصوص استمداد القدرة وأصل القدرة على العبادة وغيرها هذا ينحصر بالله، وبالتالي نقول: «إياك نعبد وإياك نستعين» فلا جبر لأن الإنسان مختار في أفعاله، ولا تفويض أي أن الله خلق الإنسان ابتداءً وحدوثاً وتركه استمراراً وبقاءً بل لابدّ أن يواصل ربّ العالمين فيضه على عباده.

والخلاصة: الاستعانة المنحصرة بالله هي الاستعانة على إيجاد أصل القدرة، والإنسان الممكن أولاً غير مستقل في وجوده، ثانياً يستحيل أن يكون مستقلاً في إيجاده، هذا الممكن الإنسان وغيره هو غير مستقل في وجوده هو قائم هذا الممكن بالواجب، ففي أصل وجوده ليس بمستقل، فكيف بما يتفرع على وجوده وهو إيجاده للأشياء، كيف يكون مستقلاً؟!

إذاً يظهر الوجه في تأخير جملة «إياك نستعين» عن قوله «إياك نعبد» فإنه تعالى حصر العباد بذاته أولاً فالمؤمنون لا يعبدون إلا الله، ثم أبان لهم أن عبادتهم ليست من تلقاء أنفسهم، بل العبد رهين القدرة التي يقدره الله عليها، لذلك ورد في الدعاء «وشكري لك يحتاج إلى شكر» لأن القدرة على الشكر من الله، فكلما شكرتك فقد وجب لك الشكر، لذلك الأحسن أن تقول: أنا عاجز عن شكرك.

رحمة الله على المرجع الكبير السيد محمود الشاهرودي والد المرجع السيد محمد الشاهرودي رحمه الله والسيد علي والسيد حسين الشاهرودي، هذا عمر تقريباً مائة وخمس سنوات، وكانوا من اليمين واليسار يشيلونه، إذا يسألونه كيف صحتكم سيدنا؟

يرفع يده، يقول: عاجز عن شكره، عاجز عن شكره، وله كرامات وكان من أهل المعنى رضوان الله عليه، ولما هجر صدام حسين العراقيين إلى إيران وظن أنه أيضاً من ضمن المهجرين، واتفق سماحة آية الله السيد محمد جعفر الجزائري صاحب كتاب منتهى الدراية في شرح الكفاية وهدى الطالب إلى المكاسب كما يعلمني ابنه سماحة آية الله السيد محمد علي المروجة الجزائري، يقول:

صار اتفاق بين الاثنين، السيد الجزائري ذهب إلى الأهواز، وقال له السيد محمود الشاهرودي: سنذهب إلى مشهد ونلتقي هناك، ذهب السيد المروجي إلى الأهواز مدة طويلة ينتظر ما في خبر، ثم اتصل بالسيد الشاهرودي، فقال: تغيرت الظروف وسأبقى في النجف.

يقول سماحة آية الله السيد محمد علي المروجي الجزائري يقول: بيت السيد محمود الشاهرودي له باب براني على الطريق العام وله باب جواني خاص لا يعرفه إلا الخاصة، يقول: طرق الباب من الباب الجواني ما كان أحد موجود من الخدم حتى يفتح الباب، فخرج السيد محمود الشاهرودي أراد يفتح الباب، يقول: فجاءني نداء من خارج الباب هذا ترابك ابقى في النجف لا تخرج، يقول: فتحت الباب لم أجد أحداً فبقي في النجف ولم يتعرض له أي أحد.

رحمة الله على علمائنا الماضين ووفقنا للاستعانة بالله والشفاعة بأولياء الله، بحث الشفاعة يأتي عليه الكلام وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  مرآة العقول، العلامة المجلسي، ج 2، ص 101، باب النية.

[2]  البيان في تفسير القرآن، ص 481.

00:00

09

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 26 الجلسة

09

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
26 الجلسة