شرح نهج البلاغة.
شیخ الدقاق

05 - مراتب التوحيد

شرح نهج البلاغة

  • الكتاب: شرح نهج البلاغة
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

09

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 مراتب التوحيد

 

قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الأولى: «وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده».

فافتتح أمير المؤمنين علي بن أبي عليه السلام الخطبة الأولى من نهج البلاغة بقوله: «أول الدين معرفته» أي أول ما يعتقد به الإنسان ويدين به الله هو معرفة الله تبارك وتعالى.

ثم قال عليه السلام: «وكمال معرفته التصديق به».

يقسم العلم في علم المنطق إلى تصور وتصديق، فالتصور هو الإدراك الساذج، والتصديق هو الإذعان والاعتقاد والحكم على ذلك التصور، فلو قلت: السماء ممطر، فإنك تتصور السماع وتتصور وتدرك المطر وهذا التصور تصور ساذج، ولكن إذا خرجت إلى الخارج ورأيت فعلاً السماء قد أمطرت فإنك تعتقد وتجزم وتصدق بنزول المطر، وهكذا لو لم ترى السماء ممطرة فإنك تصدق وتذعن وتجزم بعدم إمطار السماء.

هنا أمير المؤمنين عليه السلام قال: «وكمال معرفته» أي كمال معرفة الله عزّ وجل «التصديق به» أي الاعتقاد بوجوده والإذعان بالذات الإلهية ووجودها، فهناك تصور للذات الإلهية أي إدراك للذات التي خلقت العالم، ثم يعقب هذا الإدراك والتصور الاعتقاد والجزم بوجود الذات الإلهية.

إذاً هناك للمعرفة وهي الإدراك، وهناك كمالٌ وتمام للمعرفة وهو التصديق والإذعان، فالإنسان قد يدرك شيئاً لكنه لا تقر به نفسه ولا يعتقد به، وقد يعرف شيئاً وتعتقد نفسه به.

إذا المعرفة بمعنى الإدراك لا تكتمل إلا إذا اتبع الإدراك بالتصديق والإذعان والاعتقاد لأن الإدراك إذا قوي واشتد صار إذعاناً وحكماً.

ثم قال عليه السلام : «وكمال التصديق به توحيده» أي وتمام الاعتقاد والجزم بوجود الله هو توحيد الذات الإلهية، والتوحيد على أربع أو خمس مراتب، كما تذكر في علم الكلام والعقائد:

الأولى توحيد الذات.

المرحلة الثانية بساطة الذات وعدم تركيبها.

المرحلة الثالثة توحيد الصفات.

المرحلة الرابعة توحيد الأفعال أو التوحيد الأفعالي.

المرتبة الخامسة توحيد العبادة أو التوحيد في العبادة.

فما هو معنى هذه المراتب خمسة، والتي بينها ترتب؟

فهذه المراتب الخمسة كاملة بالنسبة إلى ما قبلها، وناقصة بالنسبة إلى ما بعدها.

أول مرتبة توحيد الذات، والمراد به أن يعتقد العبد بأن الذات الإلهية واحدة لا شريك لها، فالمراد بالتوحيد الذاتي الاعتقاد بأن الإلهية واحدة وليست متعددة، فإله العالم الذي خلق الكون الفسيح إنما هو ذاتٌ واحدة وليست ذاتان أو ذوات متعددة، هذا ما يقال له: التوحيد الذاتي أو التوحيد في الذات أي الاعتقاد بأن الذات الإلهية واحدة وليست متعددة.

المرتبة الثانية الاعتقاد ببساطة الذات وعدم تركبها فبعد أن أعتقدنا في المرتبة الأولى أن الذات التي أوجدت العالم واحدة وليست متعددة يأتي السؤال: هل هذه الذات الواحدة بسيطة أو مركبة مؤلفة ومكونة من أجزاء؟

والجواب: هذه الذات واحدة بسيطة وليست مركبة لأن المركب مفتقر إلى أجزائه والله عزّ وجل غني لا فقر فيه فلا يكون المركب مركباً ما لم تكن له أجزاء يؤلف بعضها بعضاً، فالمركب مفتقر إلى أجزائه المختلفة والمتعددة، فالتركيب يعني الحاجة والفقر، والله عزّ وجل لا حاجة ولا فقر في ساحته، فالذات الإلهية بعد أن أثبتنا أولاً أنها واحدة، نثبت ثانياً أنها بسيطة وليست مركبة.

هذا بالنظر إلى نفس الذات بدون الصفات هذه الواحدة، هل هي بسيطة أو مركبة؟

والجواب: الذات الواحدة بسيطة غير مركبة.

المرتبة الثالثة التوحيد في الصفات فالله تبارك وتعالى له عدة صفات كالرحمة والرازقية والخالقية، فهل هذه الصفات غير الذات أو أن هذه الصفات هي عين الذات؟ يعني هل توجد ذات ثبت لها العلم كما هو الحال بالنسبة للإنسان، ذات الإنسان شيء وعلم الإنسان شيء آخر، ذات الإنسان شيء وحلم الإنسان شيء آخر، فصفة العلم والحلم صفتان زائدتان على ذات الإنسانية.

والله عزّ وجل له صفات الجمال والجلال فله صفات جمالية كالعلم وله صفات جلالية نجل الله عنها، فهل صفات الجمال والجلال زائدة عن الذات الإلهية أم هي عين الذات؟

والجواب: من كمال التوحيد الاعتقاد بتوحيد الصفات أي أن ذات الله هي عين صفة الرحمة وصفة الرحمة هي عين الذات الإلهية، أي أن صفة الرحمة والعلم والحياة والقدرة ليست صفات زائدة على الذات الإلهية، ولو كانت صفات زائدة للزم التركيب فتكون الذات الإلهية التي هي من ناحية الذات بسيطة غير مركبة أضيف لها الصفات الإلهية، وهذا خلاف التوحيد فالمراد بالتوحيد في الصفات أن جميع صفات الله هي نفس ذات الله، فلا توجد اثنينيه وتعدد فالاعتقاد بتوحيد الصفات الاعتقاد بأن صفات الله عين ذاته وذاته عين صفاته.

المرتبة الرابعة التوحيد في الأفعال أو التوحيد الأفعالي وهو الاعتقاد بأن الله خلق الموجودات الأولية كالسماوات والأرضين وغيرها بلا معين ولا آلة، فالمراد بالتوحيد الأفعالي أن الله وحده لا شريك له في إيجاد الأشياء وفعل الأشياء وخلق الموجودات فهو وحده خلق الكون كله من دون معين ولا آلة ولا أدوات قد استعان بها.

ولنضرب مثالاً على توحيد الأفعالي الذي ينبغي أن يعتقده المؤمن في قرارة قلبه.

يذكر الشيخ رضا مختاري في كتابه سيماء الصالحين أن صاحب الكفاية الآخوند الشيخ محمد كاظم الخرساني رحمه الله كان جالساً مع طلابه، فجاء رجل من عوام الناس ودفع مبلغاً كبيراً من الخمس للآخوند أمام طلبته، ففرح الطلبة، وقالوا جاء الرزق، وفي ذلك الوقت كان الناس فقراء ووضعية طلاب العلم كانت ضعيفة.

فأسر ذلك الحاج الذي جاء بالخمس لصاحب الكفاية وصاحب الكفاية قد وضع المال تحت البساط الذي يجلس عليه، فلما سمع ما أسر له أخرج المبلغ وأعطاه إياه وانصرف الرجل.

فأصيب الطلبة بهم وغم، قالوا: شيخنا لما أعطيته كل المبلغ؟ وأنت تعلم بحاجتنا، فهلا أعطيته ثلث المبلغ؟ نصف المبلغ لماذا أعطيته؟

فقال: هذا قد جاء بالخمس، وقال: أنا سيد وأريد أن أزوج ولدي فاستحق سهم الإمام وسهم السادة لأنه سيد فقير، فأعطيته تمام المبلغ.

فقالوا: لو أعطيته نصفه وأبقيت شيئاً لنا.

فبكى صاحب الكفاية رحمه الله، فقيل له لم البكاء؟

فقال: لقد أتعبت نفسي على تربيتكم العلمية سنين طويلة فربيتكم علمياً، ولكن اتضح لي أنني لم أتعب عليكم أخلاقياً لأنه لا يوجد لديكم توحيد أفعالي، فالرزاق هو الله ذو القوة المتين، وليس هذا السيد المسكين، ولست أنا الذي لعلي أكد أبين، هاي من باب السجعات العبارة، فتأثر الطلبة.

أحياناً الإنسان يقول: الله الرزاق، الله الحافظ، لكن يعتقد أن الذي يحفظه هو الحارس الذي أمام بيته، يقول: الله الرزاق هو يعتقد أن الذي يرزقه هو مسؤولة أو صاحب الشهرية، هذا ما عنده توحيد أفعالي، هذا عنده توحيد أفعالي نظري، يعني نظرياً يعتقد أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

ينبغي أن ينعكس على اعتقاد الإنسان في قرارة نفسه، يعتقد أن الرزق بيد الله وحده لا شريك له، فالتوحيد الأفعالي هو الاعتقاد بأن إيجاد الموجودات وتدبير شؤونها بيد الله تبارك وتعالى.

المرتبة الخامسة والأخيرة التوحيد في العبادة وهو أن يعبد الله خالصاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا، والعبادة هي الخضوع للغير على نحو التأله، فهناك خضوع لا على نحو التأله كخضوع الولد لأبيه وخضوع العبد لسيده وخضوع الموظف لمسؤوله ومديره، فهذا خضوع لكن لا يقال له عبادة.

بخلاف من يخظع للصنم معتقداً أن هذا الصنم والوثن هو إله، فمثل هذا الخضوع يقال له: عبادة.

وهكذا من يقال في حقه أنه يعبد المال أو الجاه هذا إذا وصل المال والجاه إلى درجة الإله الذي يعبد من دون الله، فالمال والجاه تمثالان من ذهب لهما تصلي بكل فروضها الأمم، والمجلس ليس مجلساً أدبياً شرح نهج البلاغة لأمير البيان عليه آلاف التحية والثناء.

ولاحظ يا أخي الترتب بين المراتب الخمسة طولية بينها ترتيب:

أولاً تعتقد الذات واحدة.

ثانياً تعتقد أن هي بسيطة وليست مركبة.

ثالثاً تعتقد أن الذات هي عين الصفات والصفات هي عين الذات.

رابعاً تعتقد أن الأفعال تصدر منها وحدها لا شريك لها.

خامساً هي التي تستحق العبادة والإخلاص لها ولا تشرك في عبادتها أحدا.

فهذه المراتب الخمسة والمذكورة في عقائد الإمامية للشيخ رضا المظفر رحمه الله بينها ترتب، كل ما تبدأ يبدأ هذا الترتيب فالمراتب الخمسة كاملة بالنسبة إلى ما قبلها، يعني إذا ذكرت التوحيد في العبادة يعني ذكرت المراتب الخمسة التي قبلها:

أولاً توحيد الذات.

ثانياً بساطة الذات.

ثالثاً توحيد الصفات.

رابعاً توحيد الأفعال.

فتأتي المرتبة الخامسة التوحيد في العبادة.

قال عليه السلام: «وكمال توحيده الإخلاص له».

والمقصود من الإخلاص جعل الشيء خالصاً من النقائص كالجسم والعرض وما شاكلهما من النقائص.

والمراد بالإخلاص لله تبارك وتعالى التوجه له وحده لا شريك له، فلا نشرك معه غيره، وفي الرواية وفي الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل: «أنا أفضل الشريكين فما جئت به لي ولغيري فهو لغيري» فمن يصلي رياء أو يصلي عجباً، فهذه الصلاة فيها شرك وليس فيها إخلاص.

ومن هنا قسم الشرك إلى: الشرك الجلي والشرك الخفي.

الشرك الجلي بلحاظ المرتبة الأولى من التوحيد، التوحيد في الذات، فمن يعتقد أن الذات الإلهية متعددة أي لا توجد آلهة واحدة، عدة آلهة، قال تعالى: «ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» فالشرك الجلي يعني إشراك إله مع الله بالنسبة إلى الذات، فهذا شرك جلي، واضح هذا العابد لما يعبد يعبد صنمين إلهين ثلاثة أربعة خمسة هذا شرك جلي.

ويوجد شرك خفي وهو أن يصلي المصلين أو يتصدق أو يحج ويعتقد بوجود الله وأن الذات ويعتقد أن العبادة لا تكون إلا لله، ولكن حين الإتيان بالحج يحج للرياء والسمعة أو حين يصلي يصلي لإراءة الآخرين.

ذاك الذي كان يصلي، فقال له أحدهم: انظروا إليه إنه يصلي في خشوع، فالتفت وهو في الصلاة، قال: أزيدك من الشعر بيت أنا صائم أيضاً.

أو ذاك الذي دخل المسجد وشرع في الصلاة فسمع صوتاً خرخشة فظن أن بعض المصلين قد دخل المسجد فخشع وخضع في صلاته وأطال الركوع والسجود، فلما انفتل من صلاته التفت إلى خلفه وإذا بكلب العين أجلكم الله قد دخل المسجد، فكانت تلك الصلاة هي صلاة الكلب، فهذا شرك خفي.

نجانا الله وإياكم من الشرك الجلي والشرك.

وبعد أن شرع أمير المؤمنين عليه السلام من بيان التوحيد وانتقل إلى الإخلاص، وبين أن كمال التوحيد  في الإخلاص لله شرع في بيان كمال الإخلاص لله فقال: «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

00:00

09

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 6 الجلسة

09

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: شرح نهج البلاغة
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
6 الجلسة