بحوث في علم الرجال
شیخ الدقاق

16 - أصالة العدالة وأثرها في التوثيقات

Narrator evaluation studies (Bohuth fi ilm alrijal)

  • الكتاب: بحوث في علم الرجال
  • الجزء

    -

  • الصفحة  

    -

13

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 أصالة العدالة وأثرها في التوثيقات

 

أصالة العدالة وأثرها في التوثيقات، وينبغي أن يبحث هذا الموضوع من جهتين:

الأولى كبرى بحث أصالة العدالة وتحقيق القول فيها.

الثانية تنقيح البحث الصغروي الرجالي، وتحقيق ما نسب إلى بعض الرجاليين من أنهم يبنون على أصالة العدالة في توثيقاتهم وتصحيحاتهم لأسانيد الروايات وطرق الكتب.

الجهة الأولى البحث في أصالة العدالة

ويمكن التفريق بين موردين في كلمات الفقهاء:

المورد الأول ما تكون العدالة شرطاً فيه كباب الشهادة فيشترط في الشاهد ثبوت عدالته.

المورد الثاني ما يكون الفسق مانعاً كما يدعى ذلك بالنسبة إلى إمامة الجماعة، فقال بعضهم: لا تشترط العدالة في إمام الجماعة، لكن الفسق مانعٌ من إمامته.

إذاً العدالة هل هي في مرحلة الاقتضاء؟ كما في المورد الأول، أو هي في مرحلة المانعية كما في المورد الثاني؟

وقد تمسك بعضهم بأصالة العدالة فيما يرجع إلى المورد الأول، وتمسك البعض الآخر بأصالة العدالة فيما يرجع إلى المورد الثاني أي المعنوية، والمراد بأصالة العدالة أن الأصل في كل شيعي إمامي لم يرد فيه قدح ولا مدح أنه ثقة، فنحن لا نحتاج لإثبات عدالته بل يكفي نفي القدح فيه، فإذا انتفى المانع وهو التضعيف ثبت المقتضي وأصبح فعلياً لأنه شيعي إمامي والأصل في الشيعي الإمامي أنه عدلٌ ما لم يثبت قادحه وتضعيفه.

ولعل أوضح من نسب إليه القول بأصالة العدالة هو ابن الجنيد الإسكافي رحمه الله ما احتمله صاحب الجواهر[1]، ويوجد كلام للعلامة الحلي[2] كالصريح في أن ابن الجنيد يبني على أصالة العدالة، وأما ما نسب إلى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي من بعض أصحابنا من أنهما كانا يعملان بأصالة العدالة، فمما لا أصل له، ولم يثبت ذلك.

وتفصيل هذا البحث في الفقه، لكن ينبغي أن نختم الجهة الأولى بهذه النكتة، وهو أن توثيق الرواة وتصحيح الأحاديث، هل لا بد فيه من النقطة الأولى وهي إثبات العدالة أم يكفي فيه النقطة الثانية؟ أي عدم الفسق وعدم المانع.

والجواب: إن ما نحن فيه وهو حجية خبر الثقة أو حجية خبر العدل الإمامي من أوضح مصاديق النقطة فلا بد من إحراز العدالة والوثاقة، ولا يكفي عدم ثبوت القدح، وهذا ما يفهم من الشيخ الطوسي رحمه الله في العدة من أن الطائفة المحقة قد وثقت الثقات إلى آخر كلامه رحمه الله.

لذلك لا حاجة لإطالة البحث في أنه لابد من إحراز وثاقة أو عدالة الرواة، ولا يكفي عدم ثبوت المانع فيهم، ولنعم ما ذكره صاحب الجواهر[3] رحمه الله من أن اشتراط الوثاقه وإحراز الوثاقه والعدالة في الراوي من الضروريات.

هذا تمام الكلام في الجهة الأولى واتضح أنه لابد من إحراز وإثبات الوثاقة أو العدالة لكي يعمل بالسند ولا يكفي إثبات عدم الفسق أو عدم الكذب.

الجهة الثانية تحقيق ما نسب إلى قائلين بأصالة العدالة.

قد ذكر في حق مجموعة أنهم يعملون بأصالة العدالة، وهذا المبحث قد توسع فيه سيد أساتذتنا المحققين السيد أبو القاسم الخوئي[4] رحمه الله فأكثر من رمي العلامة من المتأخرين أو حتى الشيخ الطوسي من أنهم عولوا في توثيقهم على أصالة العدالة، وقد يستفاد من كلامه أن من نسب إليهم القول بأصالة العدالة جزماً أو احتمالاً كما يلي:

الأول الأصحاب أو المشهور.

الثاني الصدوق.

الثالث محمد بن الحسن بن الوليد.

الرابع حمدويه بن نصير.

الخامس ابن طاووس.

السادس ابن داوود.

السابع العلامة الحلي.

وهنا نكتة لابد أن نسلط الضوء عليها قبل الخوض في غمار البحر، وهي أن السيد الخوئي رحمه الله لم يرمي العلامة الحلي وغيره بأنه يعمل بأصالة العدالة في مورد التوثيق الصريح والظاهر كما لو قال العلامة الحلي أو الشيخ الطوسي «فلان ثقة، فلان عدل، فلان ثقة ثقة» فإنه رحمه الله كان يحمل كلام الشيخ الطوسي والشيخ النجاشي على الحسية، لكن في الموارد التي لم ينص بتوثيق صريح على الرجل، وصحح العلامة الحلي ذلك السند، هنا قال السيد الخوئي بأن هذا التصحيح لربما منشأه أصالة العدالة، وعمدة البحث ما ذكره السيد الخوئي رحمه الله في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن سمكة، وما ذكره العلامة الحلي فيه فقد استفاد السيد رحمه الله أن العلامة بنى على أصالة العدالة.

ولنذكر بعض مقاطع السيد الخوئي التي شكك في تصحيح الشيخ الطوسي والعلامة الحلي وقال: لعل بناؤهم على أصالة العدالة مثل أن كل من روى عنه المشايخ الثلاثة فهو ثقة، هذا ليس توثيق صريح، فقال: لعله من حدس الشيخ الطوسي وبناءه على أصالة العدالة.

قال السيد الخوئي رحمه الله في مقام مناقشة دعوى مشايخ الثقات ما نصّه:

«فرضنا أن التسوية المذكورة ثابتة وأن الأصحاب عملوا بمراسيل ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي وأضرابهم ولكنها لا تكشف عن أن منشأها هو أن هؤلاء لا يرون ولا يرسلون إلا عن ثقة، بل من المظنون قوياً أن منشأ ذلك هو بناء العامل على حجية كل إمامي لم يظهر منه فسق، وعدم اعتبار الوثاقة فيه كما نسب ذلك إلى القدماء، واختاره جمع من المتأخرين»[5].

فلاحظوا قوله رحمه الله: «وعدم اعتبار الوثاقة فيه»، وهذا خلاف ظاهر عبارة الشيخ الطوسي، الشيخ الطوسي يقول: «ولهذا سوت الطائفة» ينسب النسبة عن حس، ولهذا سوت الطائفة بينما يرويه محمد بن أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر البيزنطي وصف ابن يحيى وبينما ارسله غيرهم ممن عرفوا بالوثاقة، فظاهر كلام الشيخ الطوسي أنه ينقل عن حس لا أنه عن حدس.

وهكذا ناقش السيد الخوئي في مبنى المحدث النوري صاحب المستدرك الذي ذهب إلى أن مجرد رواية الثقة عن شخص أمارة وثاقة ذلك الشخص، وقال: إن توثيق شخص بمجرد رواية الثقة عنه هذا مبني على أصالة العدالة، قال السيد الخوي رحمه الله ما نصّه:

«فإن غاية ما يمكن أن يتوهم أن تكون رواية كل ثقة عن رجلٍ دليلاً على اعتماده عليه، وأين هذا من التوثيق أو الشهادة على حسنه ومدحه، ولعل الراوي كان يعتمد على رواية كل إمامي لم يظهر منه فسق»[6].

أقول: تختلف المباني فعلى مبنانا إكثار الجليل عن شخص أمارة الوثاقة، فلو أكثر الكليني أو الصدوق أو الشيخ الطوسي من الرواية عن رجل فهذا يدل على اعتماده لا أن مجرد رواية الجليل فهذا لا يكشف عندنا، لكن لعل المحدث النوري رحمه الله يرى أن الثقة لا يروي إلا عن ثقة، وقد استنبط من ذلك أنه بمجرد أن يروي الثقة عن شخص فهذا أمارة توثيقه، فمن أين لنا أن نحرز أو أن نشكك ونقول لعل المحدث النوري ذهب إلى توثيق من يروي عنه الثقة اعتماداً منه على أصالة العدالة.

وقال السيد الخوئي في مورد ثالث قاعدة استفادة التوثيق من وقوع الراوي في سند محكوم بالصحة عند المتقدمين أو المتأخرين قال ما نصّه:

«إن اعتماد ابن الوليد أو غيره من الأعلام المتقدمين فضلاً عن المتأخرين على رواية شخصٍ والحكم بصحتها لا يكشف عن وثاقة الراوي أو حسنه، وذلك لاحتمال أن الحاكم بالصحة يعتمد على أصالة العدالة ويرى حجية كل رواية يرويها مؤمن لم يظهر منه فسق»[7].

أقول: إذا حكم على سند بالصحة، فالحاكم بالصحة إما أن يكون من المتقدمين كالصدوق والشيخ الطوسي، وإما أن يكون من المتأخرين كالعلامة الحلي وابن داود، فيحمل على مصطلح الصحة عند المتقدمين أو المتأخرين، والصحة عند المتقدمين بمعنى اعتضاد الخبر بقرائن توجب الاطمئنان والوثوق بصدوره أو صحته، فإذا حكم محمد بن الحسن بن الوليد أستاذ الصدوق على سند بأنه صحيح فهذا يعني أن القرائن قد توفرت وأوجبت اعتضاد الخبر بما يوجب الوثوق بصدوره أو صحته ولا نستفيد من ذلك التعديل ولا نحتمل أن محمد بن الحسن بن الوليد قال بذلك اعتماداً على أصالة العدالة.

وأما إذا كان الحاكم بصحة السند هو من المتأخرين كالعلامة الحلي فحينئذ نحمل لفظ الصحة على الصحة عند المتأخرين بمعنى أن يكون جميع الرواة الواردين في سلسلة السند عدولاً إمامية.

وفي الختام نقول: لم يناقش كثيراً في أصالة العدالة أحدٌ كالسيد الخوئي رحمه الله، والكثير من الرجاليين لم يطعنوا بتوثيقات العلامة الحلي وغيره من المتقدمين والمتأخرين رمياً لهم بأنها مبنية على أصالة العدالة.

والسر في ذلك: أن شرط العدالة هو من قبيل النكتة الأولى أي يشترط إحراز الوثاقة والعدالة، وليس من قبيل النقطة الثانية أنه يكفي فيه عدم الفسق أو إثبات عدم وجود المانع، ومن الواضح أن أصالة العدالة قائمة على النكتة الثانية وأنه يكفي إثبات عدم فسق الإمامي، والحال أن باب توثيقات الرواة كباب شهادات الشهود يشترط فيه إحراز وإثبات الوثاقة والعدالة.

والذي يهمنا في البحث وما ذكره السيد الخوئي رحمه الله من إثبات أن العلامة الحلي كان يعتمد على أصالة العدالة، فذكر العلامة الحلي في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن سمكة أنه إمامي ولم يثبت قدحه فهو ثقة.

لكن هذا الكلام معارض بكلمات العلامة الحلي الأخرى التي يذكر فيها أنها هذا الراوي إمامي ولم يثبت قدحه لكن أتوقف، وأحياناً يقول لا أقبل روايته، فلو كان العلامة الحلي يعتمد على أصالة العدالة في جميع هذه التراجم لما وثق بعضهم ولما توقف في البعض الآخر ولما رفض البعض الثالث، فهذا يعني أن العلامة الحلي قد اعمل واجتهاده وحدسه ففي بعض الموارد ثبت القدح وفي بعض الموارد لم يثبت القدح وفي بعض الموارد تردد وتوقف.

الآن نذكر المورد الأول الذي يفهم منه البناء على أصالة العدالة وهو ما ذكره العلامة الحلي في خلاصة الأقوال في ترجمة أحمد بن إسماعيل بن سمكة بن عبد الله حيث قال رحمه الله ما نصّه:

«أبو علي البجلي عربي من أهل قم كان من أهل الفضل والأدب والعلم، وعليه قرأ أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد، وله كتب عدة لم يصنف مثلها، وكان إسماعيل بن عبد الله من أصحاب أحمد بن أبي عبد الله البرقي وممن تأدب عليه، فمن كتبه كتاب العباسي وهو كتاب عظيم نحو عشرة آلاف ورقة في أخبار الخلفاء والدولة العباسية مستوفاً لم يصنف مثله هذا خلاصة ما وصل إلينا في معناه، ولم ينص علماؤنا عليه بتعديل ولم يروى فيه جرح فالأقوى قبول روايته مع سلامتها من المعارض»[8].

فجزم السيد الخوئي رحمه الله من هذا الكلام بأن العلامة يبني على أصالة العدالة في كل إمامي لم يظهر منه فسقه، ولو كان يبني لماذا قيد مع سلامتها على عن المعارض؟! لو كان يبني على أصالة العدالة لما قال نأخذ بها ما لم تكون هناك معارضة، ولكن هناك مقاطع عديدة للعلامة الحلي في تراجم أخرى نفس المورد أولاً إمامي، ثانياً لم يثبت قدحه لكن العلامة يتوقف أو ما يقبل روايته.

من هذه التراجم ما ذكره العلامة الحلي في بشير النبال، قال: «روى الكشي حديثا في محمد بن سنان وصالح ابن أبي حماد وليس صريحاً في تعديله فأنا في روايته متوقف»[9].

وقال في ترجمة أحمد بن حمزة: «روى الكشي عن حمدويه عن أشياخه قال: كان في عداد الوزراء وهذا لا يثبت به عندي عدالته»[10]

وقال في ترجمة الحسن بن سيف: «قال ابن عقدة عن علي بن الحسن أنه ثقة الحديث ولم أقف له على مدح ولا جرح من طريقنا سوى هذا والأولى التوقف فيما ينفرد به حتى تثبت عدالته»[11].

وهناك موارد عديدة كثيرة يمكن مراجعة ما استقصاه شيخنا الأستاذ الشيخ حسان سويدان، وذكر الموارد في الحاشية رقم أربعة من كتابه[12]، وقد أيضاً أورد شيخنا الأستاذ الشيخ باقر الإيرواني حفظه الله في كتابه[13] وأفرد بحثاً لأصالة العدالة وذكر عدة موارد العلامة الحلي ينص على أن هذا الرجل إمامي ولم يثبت قدحه لكنه قد توقف أو لم يقبل روايته.

إذاً لم يثبت أن العلامة الحلي غيره كان يعتمد على أصالة العدالة، وتمام النكتة في بحثنا اليوم هو أن الأصحاب اشترطوا إحراز الوثاقة والعدالة، ولم يكتفوا بمجرد نفي الفسق وعدم الكذب، والله العالم.

حجية توثيق أصحاب المباني الخاصة يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج 13، ص 288.

[2]  مختلف الشيعة في أحكام الشريعة، الشيخ حسن بن يوسف الحلي، ص 483.

[3]  جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، ج 13، ص 285.

[4]  معجم رجال الحديث، ج 1، ص 62.

[5]  معجم رجال الحديث، السيد الخوئي، ج 1، ص 62.

[6]  معجم رجال الحديث، ج 1، ص 69.

[7]  معجم رجال الحديث، ج 1، ص 70.

[8]  خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، العلامة الشيخ حسن بن يوسف الحلي، ص 66، رقم الترجمة 86.

[9]  خلاصة الأقوال، ص 79، رقم 102.

[10]  خلاصة الأقوال، ص 95، رقم الترجمة 95.

[11]  خلاصة الأقوال، 108، رقم 71.

[12]  تنقيح المباني الرجالي، ج 1، ص 96.

[13]  دروس تمهيدية في القواعد الرجالية.