بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 كمال الإخلاص

قال أمير المؤمنين _{عليه السلام} في الخطبة الأولى من نهج البلاغة:

«وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة».

أشار أمير المؤمنين _{عليه أفضل صلوات المصلين} إلى توحيد الصفات، فصفات الله عين ذاته، وذاته عين صفاته، ولا توجد اثنينيه بين الذات الإله والصفات الإلهية، وهذا بخلاف ما هو موجود في العالم، ففي العالم وفي عالم الإمكان كل موصوف غير الصفة، فالذات تتصف بالعلم والحياة والقدرة، لكن الذات غير القدرة والقدرة غير العلم والعلم غير الحياة، فهناك الملايين من الصفات في عالم الإمكان وكل صفة تغاير الصفة الأخرى وكل صفة تغاير الذات.

مثلاً: ذات الإنسان غير علمه وقدرته غير ذاته، وهكذا حلاوة التمر غير ذات التمر.

والسر في ذلك:

أن الذات جوهر فالإنسان والتمر والشجر والحجر والمدر جوهرٌ أي موجود لا في موضوع بخلاف الصفات فإنها عرضٌ أي موجود في موضوع، فالصفات تطرأ على الذوات فتوجد بينونة بين الذوات وبين الصفات من جهة، وبين نفس الصفات المتباينة والمختلفة من جهة أخرى.

وهذا بخلاف الذات الإلهية فصفات الله عين ذاته، وذاته عين صفاته، وبعبارة أوضح: ‘ن الله وصفاته شيء واحد ولا فرق بينهما في الوجود والحقيقة أي يوجد وجود واحد فقط وهو الوجود المطلق غير المقيد، تقول: الذات الإلهية وجود مطلق أي غير مقيد بخلاف بقية الذوات تقول: الإنسان موجود، الشجر موجود، الحيوان موجود، فتقيد الوجود بماهية الإنسان الوجود بماهية الحيوان فالأشياء في عالم الإمكان مؤلفة من وجود وماهية كما يقول الفلاسفة: «إن الوجود عارض الماهية تلاقيا واتحدا سويه» كما يقول صاحب المنظومة.

فتقول: إنسان موجود، حيوان موجود، نبات موجود أي نقيد الوجود هذا الوجود ليس مطلقاً هذا الوجود مقيد بماهية الإنسان أو ماهية النبات أو ماهية حيوان، لكن الذات الإلهية وجود مطلق أي غير مقيد بأي قيد.

فإذا قلت: إن الذات الإلهية مقيدة بصفات أي أنها تحتاج إلى تلك الصفات وتلك القيود، والذات الإلهية غنى مطلق لا فقر في ساحتها، فيقولون: الله وجودٌ مطلق أي غير مقيد بماهية، ومن هنا يقول الفلاسفة: واجب الوجود ماهيته إنيته أي واجب الوجود ماهيته إنيته أي عين وجوده يعني لا ماهية له إلا وجوده.

والماهية مصدر صناعي من «ما هو؟»، والمصدر الصناعي هو إضافة الياء المشدد والتاء المربوطة هذا يقال له مصدر صناعي «ما هي؟»، تقول «ماهية»، فالماهية هي ما يقال في جواب «ما هو؟»، تقول: ما الإنسان؟ حيوان ناطق، ما هو الأسد؟ حيوان زائر، ما هو الفرس؟ حيوان صاهل، أي حيوان صاهل موجود.

حيوان صاهل، حيوان جنس وصاهل الفصل، حيوان ناطق حيوان جنس ناطق فصل، فالماهية مؤلفة من الجنس والفصل.

إذاً عندنا واجب وعندنا ممكن، في الممكن توجد مغايرة بين الوجود وبين الماهية، بخلاف الواجب، الواجب لا ماهية له، يعني لا توجد ماهية تقيد وجوده المطلق، يقولون: واجب الوجود ماهيته إنيته، الإنية يعني الوجود يعني ماهيته عين وجوده.

إذاً الذات الإلهية شيء واحد فقط، هذا الشيء الواحد هو الذات وهو الصفات، ولا توجد اثنينيه وبينونة بين الذات والصفات، لذلك لا يمكن ولا يعقل التفكيك بين الله تعالى وصفاته، فلا يقال: كان الله ثم صار عالماً، ثم صار قادراً، بل تقول: كان الله عالماً قادراً حياً قيوماً إلى آخر الصفات.

إذاً الصفات الإلهية هي عين الذات الإلهية والذات الإلهية هي عين الصفات الإلهية، فيوجد شيء واحد لا أنه شيئان اندكا لا يحصل توهم أن كانت الذات ثم الصفات ثم اتحدا وأصبحا شيئاً واحداً هذا يلزم منه التركيب والذات الإلهية بسيطة، الذات الإلهية وجود واحد مطلق، هذا الوجود الواحد المطلق هو عين الذات وهو عين الصفات.

وقد تقدم في كلام أمير المؤمنين _{عليه أفضل صلوات المصلين}: «أنه ليس لصفة الله حد محدود» فإذا كانت الصفة عين الذات والذات عين الصفات إذا كما أن الذات غير محدودة كذلك الصفة غير محدودة.

سؤال: ما هو أدنى مراتب الإخلاص في العبادة؟

الجواب: قصد القربة إلى الله وعدم الرياء والسمعة، هذا أدنى شيء في الإخلاص في العبادة.

سؤال آخر: ما هي أعلى مراتب الإخلاص لله؟ أعلى المراتب.

الجواب: نفي الصفات عن الباري تبارك وتعالى لأن العبد إذا أتى بعمل لله وكان يعتقد أن الذات غير الصفات فيكون قد عبد إلهين: الأول هو الذات، الثاني هي الصفة، فأعلى مرتبة وأكمل مرتبة من مراتب الإخلاص هي توحيد الذات والصفات، وإذا وحد الذات والصفات سيخلص العبادة لهذه الذات التي هي عين الصفات.

لذلك قال أمير المؤمنين _{عليه أفضل صلوات المصلين}: «وكمال الإخلاص له» أي لله «نفي الصفات عنه» يعني نفي الصفات الزائدة عنه وليس نفي مطلق الصفات، هناك صفات للذات الإلهية، المراد نفي الصفات الزائدة عن الله، لأن اثبات الصفات الزائدة لله ينافي التوحيد، بل يثبت الشرك تصبح الآلهة متعددة الذات الإلهية إله وكل صفة من الصفات المتغايرة المتابينة إله.

ثم قال _{عليه السلام}: «لشهادة كل صفة أنها غير موصوف» يعني للشهادة في عالم الإمكان أن كل صفة زائدة هي عرض وهذه الصفة الزائدة غير الموصوف الذي هو جوهر.

ثم قال: «وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة» أي أننا نشهد ونعاين ونرى أن كل جوهر موصوف في عالم الإمكان هو غير الصفة التي تثبت له.

هذا تمام الكلام في هذا المقطع الذي تكلم فيه أمير المؤمنين عن كمال الإخلاص.

خلاصة مقطع «كمال الإخلاص»:

أن يعتقد المسلم أن الذات الإلهية عين الصفات، وأن الصفات عين الذات لأنه لو أعتقد تغاير الذات مع الصفات لزم تعدد الآلهة، وهذا خلاف التوحيد وخلاف الإخلاص لله تبارك وتعالى.

[النهي عن وصف الله تعالى]

قال _{عليه السلام}: «فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه» أي قرنه بغيره.

سؤال يطرح نفسه: ذكر أمير المؤمنين في أوائل الأولى ما نصّه: «ليس لصفته حد محدود»، ثم ذكر _{عليه السلام}: «وكمال الإخلاص له نفي صفات عنه»، فكيف نجمع بين هاتين العبارتين؟ عبارة تقول: نفي الصفات، وعبارة تثبت الصفة لله وأنها غير محدودة، هل يوجد تنافي بين إثبات الصفة غير المحدودة لله وبين نفي الصفات عن الله؟

الجواب: المقصود من العبارة الأولى «ليس لصفته حد محدود» أن صفة الله عين ذاته وليست زائدة عليه، وبما أن الذات غير محدودة فالصفة أيضاً غير محدودة، فالجملة الأولى ناظرة إلى أن صفة الله عين ذاته وذاته عين صفته وبما أن الذات غير محدودة ولا متناهية فكذلك الصفة غير محدودة ولا متناهية.

بينما المقصود من العبارة الثانية «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» أي نفي الصفات الزائدة على وجود الذات، أي أن الذات الإلهية ليست مركبة، بل هي بسيطة، الذات الإلهية ليست مركبة من ذات وصفات زائدة على الذات، فمن وصف الله بصفات زائدة على ذاته فقد قرن الله بغيره أي شبه الله بغير ذاته، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

مثال ذلك: إذا أعتقد المسلم أن علم الله كعلم الناس، وأن قدرة الله كقدرة الناس، وأن حياة الله كحياة الناس، فحينئذ سيعتقد بالتركيب فالإنسان شيء والعلم شيء آخر، والإنسان شيء والحياة شيء آخر، والإنسان شيء والقدرة شيء آخر، فإذا أعتقد هكذا في الله فإنه يجعل الله قرين علمه وقرين قدرته، أي تكون القدرة والحياة والعلم وسائر الصفات مقارنة لله وليست هي عين.. يعني اقترنت بالذات الإلهية.

لذلك يقول _{عليه السلام}: «فمن وصف الله» يعني فمن وصف بصفات زائدة على ذات الله «فقد قرنه» يعني فقد قرن الله بغير الله أي جعل الإلهية مقترنة بصفة زائدة على الذات الإلهية، وهذا قرن وتمثيلٌ لله بغير الله من سائر الممكنات.

لاحظ التفريعات:

التفريع الأول «فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه».

التفريع الثاني «ومن قرنه فقد ثناه» يعني من جعل صفات الله زائدة ومقترنة بالذات الإلهية فقد ثنى الله، يصير الإله اثنان: الأول الذات الإلهية، الثاني الصفة الإلهية.

التفريع الثالث «ومن ثناه فقد جزأه» أي من ثنى الله وجعله اثنين «فقد جزأه» أي جعل الذات الإلهية مركبة من جزئيين: الجزء الأول هو الذات الإلهية، والجزء الثاني الصفات الإلهية.

التفريع الرابع «ومن جزأه فقد جهله» أي ومن جزأ الله وأعتقد أنه مركب مؤلف من أجزاء فقد جهل الله أي جهل ربّه ولم يعرفه فهو لم يطلع على وجود ربّه لأن الله بسيط فالذات الإلهية بسيطة وليست مركبة ومن أعتقد أن الذات مركبة فقد جهل وجود الله يعني أعتقد خلاف الواقع.

فالمراد بالجهل هنا ليس الجهل البسيط بل الجهل المركب الذي يلازم الاعتقاد، فالجهل جهلان: جهل بسيط أن لا تدرك الشيء ولا تعرف الشيء ولا تعلم به، وجهل مركب وهو مؤلف من جهلين: الأول الجهل بالشيء، الثاني الجهل بأنك جاهل بالشيء، تعتقد أنك أنت عالم، المصاب بالجهل المركب يعتقد أنه عالم.

الآن إذا واحد مريض ويعتقد أنه مريض يذهب إلى الطبيب، لكن إذا هو مريض ويعتقد أنه غير مريض هذا لا يذهب إلى الطبيب ولا يقبل كلام الطبيب، فهذا مصاب بالجهل المركب، كذلك من جزأ الله قد جهل الله بالجهل المركب، يعني يعتقد أن الله مركب وهذا جهل في جهل، أولاً يجهل حقيقة الذات الإلهية، وثانياً يجهل أنه جاهل بحقيقة الذات الإلهية.

التفريع الخامس قال _{عليه السلام}: «ومن جهله فقد أشار إليه».

«ومن جهله» يعني ومن جهل الله وأعتقد أنه مركب من جزئين أو أكثر.

«فقد أشار إليه» يعني جعله محدوداً لأن الإشارة إنما تكون للمحدود، ولا تكون لغير المحدود، فالشيء إذا لم يكن محدوداً لا يمكن الإشارة إليه لأنه لا متناهي ولا محدود، فإذا أشير إلى الكاميرا أو إلى الكتاب أو إلى الطالب أو إلى الأستاذ فهذه علامة أنه محدود.

لاحظ التعبير الدقيق قال _{عليه السلام}: «من جهله» يعني من جهل الله وأعتقد أنه مؤلف من أجزاء وأنه مركب فقد أشار إليه يعني هذا المركب يشغل حيز من الوجود هذا له أجزاء تشغل حيز من الوجود يمكن أن يشار إليها.

التفريغ السادس قال: «ومن أشار إليه فقد حده» أي من أشار إلى الله فقد جعل له حدوداً وحيزاً من الجود، والذات الإلهية وجود مطلق غير محدود غير مقيد.

التفريع السابع «ومن حده فقد عده» أي أن الشيء المحدود يكون قابلاً للعد، ويكون من زمرة الأعداد والمعدودات محدثه، والله قديم وليس بحادث.

التفريع الثامن «ومن قال فيما فقد ضمنه» أي من أعتقد أن الله في شيء يعني في ظرف مكان أو ظرف زمان فقط ضمنه يعني جعله في ضمن شيء، والظرفية من لوازم الجسمية والله عزّ وجل ليس بجسم لا يشغله مكان ولا يخلو منه مكان، قال تعالى: (وهو الله في السماوات)، قال تعالى: (وهو معكم أينما كنتم).

بعد التفريع التاسع «ومن قال علام؟ فقد أخلى منه» علام يعني على شيء، تقول: «الكتاب على الطاولة» يعني الكتاب لا يشمل غير الطاولة، فالاستعلاء يوجب أن يشغل الشيء حيزاً، تقول: «الملك على السرير» فإذا أثبت أن الملك على السرير يعني بقية الجهات تخلو منه.

لذلك قال _{عليه السلام} : «ومن قال: علام؟» يعني أن الله على شيء «فقد أخلى منه» يعني فقد أخلى منه بقية الأشياء والله في كل مكان ولا يخلو من مكان، قال تعالى: (الرحمن على العرش استوى)، وليس المراد بالعرش كرسي ككراسي الملوك، المراد بالعرش العلم فالله عزّ وجل بعلمه يسيطر على العالم، ويحكم العالم.

هذا تمام الكلام في هذا المقطع ثم يقول: «كائنٌ لا عن حدث»، ويأتي بدروس في التوحيد، يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمدٍ وآله الطاهرين