بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 الحديث الثامن والعشرون من الأدلة الروائية

الحديث الثامن والعشرون من الأدلة الروائية على مشروعية الجهاد الابتدائي ما رواه حفص بن غياث وهو حديث طويل عن أبي عبد الله _{عليه السلام} قال: «سأل رجل أبي _{عليه السلام} عن حروب أمير المؤمنين _{عليه السلام} وكان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر _{عليه السلام}: بعث الله _{صلى الله عليه وآله} بخمسة أسياف، ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم في ذلك اليوم، (فيومئذ لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا).

«وسيف مكفوف» ـ وفي نسخة «ملفوف»، «وسيف منها سله إلى غيرنا، وحكمه إلينا. فأما السيوف الثلاثة المشهورة» وفي نسخة التهذيب والاستبصار «الشاهرة»، «فسيف على مشركي العرب، قال الله عزّ وجل: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحشروهم واقعدوا لهم كل مرصد)[1]، (فإن تابوا) يعني آمنوا، (وأقاموا الصلاة فإخوانكم في الدين)[2] فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، وأموالهم ومالهم شيء وذراريهم سبي على ما سن رسول الله _{صلى الله عليه وآله} فإنه وعفا قبل الفداء.

والسيف الثاني على أهل الذمة قال الله تعالى: (وقولوا للناس حسنا)[3] نزلت الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله عزّ وجل: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يديون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)[4] فمن كان منهم في دار الإسلام فلن منهم إلا الجزية أو القتل، ومالهم في فيء وذراريهم سبيٌ، وإذا قبلوا الجزي على أنفسهم حرم حرم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم، وحلت لنا مناكحتهم، ولم يقبل منهم إلا دخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل.

والسيف الثالث سيفٌ على مشرك العجم» يعني الترك والديلم والخزر «قال الله عزّ وجل في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقص قصتهم ثم قال: (فضرب الرقاب حتى إذا أثخمتموهم فشدّوا الوثاق فإما منّا بعدُ وإما فداءً حتى تضع الحرب أوزارها)[5].

فأما قوله: (فإمّا منّا بعد) يعني بعد السبي منهم، (وإما فداء) يعني المفادات بينهم وبين أهل الإسلام فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القاتل أو الدخول في الإسلام، ولا تحل لنا مناكحتهم ما داموا في دار الحرب.

وأما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي والتأويل قال الله عزّ وجل: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله)[6] فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله _{صلى الله عليه وآله}: إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي من هو؟ فقال: خاصف النعل» يعني أمير المؤمنين _{عليه السلام}.

«فقال عمار بن ياسر: قاتلت بهذه مع رسول الله _{صلى الله عليه وآله} ثلاثاً، وهذه الرابعة والله لو ضربونا حتى يبلغون المسعفات من هجر لعلمنا أن على الحق وأنهم على الباطل، وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين _{عليه السلام} ما كان من رسول الله _{صلى الله عليه وآله} في أهل مكة يوم فتح مكة فإنه لم يسبي لهم ذرية، وقال: من أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن» وفي نسخة «ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

وكذلك قال أمير المؤمنين _{عليه السلام} يوم البصرة نادى: لا تسبوا لهم ذرية، ولا تجهز على جريح، ولا تتبعوا مدبراً، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن.

وأما السيف المغمود فالسيف الذي يقوم به القصاص» وفي نسخة «يقام به القصاص، قال الله عزّ وجل: (النفس بالنفس والعين بالعين)[7] فسله إلى أولياء المقتول وحكمه إلينا، فهذه السيوف التي بعث الله بها محمد _{صلى الله عليه وآله}» وفي نسخة «التي بعث الله بها إلى نبيه محمد _{صلى الله عليه وآله} فمن جحدها أو جحد واحداً منها أو جحد شيئاً من سيرها أو أحكامها فقد كفر بما أنزل على محمد _{صلى الله عليه وآله}»[8].

قد أنهينا بحمد الله الأحاديث الثمانية والعشرين من الباب الأول، وشرعنا في الباب الخامس في درس الأمس أخذنا الرواية الأولى واليوم نأخذ هذه الرواية الثانية.

هذه الرواية الثانية من الباب الخامس والتي هي عبارة عن الحديث الثامن والعشرون يرويها حفص بن غياث عن الإمام الصادق _{عليه السلام}، والإمام الصادق في مقام الحكاية عن أبيه إذ أن سائلاً سأل أباه الإمام الباقر عن حروب أمير المؤمنين فنص الحديث للإمام الباقر، والناقل والمفسر بقوله يعني هو الإمام الصادق _{عليه السلام}، وهذا سيفيد في المناقشات التي ستأتي.

[الإسناد]

روي الحديث بخمسة أسانيد جميعها قابلة للمناقشة:

السند الأول محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داوود المنقري عن حفص بن غياث، وهذا السند ضعيف بثلاثة، وهم: علي بن محمد القاساني ويمكن تجاوزه باعتبار أنه يروي في عرض إبراهيم بن هاشم أب علي بن إبراهيم، والثاني القاسم بن محمد وهو مشترك ولم يوثق، والثالث حفص بن غياث.

السند الثاني ما رواه محمد بن علي بن الحسين الصدوق في الخصال، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمد إلى بقية السند، يعني عن سليمان بن داوود المنقري عن حفص بن غياب، هذا السند مبتلى بالقاسم بن محمد وحفص بن غياث، فيكون ضعيفاً.

السند الثالث علي بن إبراهيم القمي في تفسيره عن أبيه عن القاسم بن محمد إلى آخر السند، وهذا مبتلى بالقاسم بن محمد وحفص بن رياض.

السند الرابع محمد بن الحسن الطوسي بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن علي بن محمد القاساني إلى تتمة السند يعني عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داوود المنقري عن حفص بن غياب، وهذا فيه ثلاثة علي بن محمد القاساني، القاسم بن محمد، والحفص بن غياث.

السند الخامس محمد بن الحسن الطوسي بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن علي بن محمد القاساني، وفيه ثلاثة: علي بن محمد القاساني والقاسم بن محمد وحفص بن غياث.

فهذا السند ضعيف بجميع أسانيده فلا تكن الرواية معتبرة إلا بناء على بعض المباني، مثل: مبنى صحة جميع أحاديث الكافي أو مبنى صحة أو قطعية جميع روايات الكتب الأربعة، فإن هذه الرواية قد تكررت في الكافي للكليني والتهذيب للشيخ الطوسي والاستبصار للشيخ الطوسي فقد رويت في ثلاثة من الكتب الأربعة وذكرها الصدوق في كتاب الخصال.

فيمكن تصحيح الرواية بناء على صحة جميع أحاديث الكافي أو صحة روايات الكتب الأربعة.

[الدلالة]

يوجد في الحديث ثلاث فقرات يمكن الاستدلال بها على مشروعية الجهاد الابتدائي بل وجوبه.

الفقرة الأولى قوله _{عليه السلام} : «فسيف على مشركي العرب فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل».

وقد ناقش المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين الفقرات الثلاث، وانتهى إلى أنها لا تدل على مشروعية الجهاد الابتدائي، والصحيح أنها ظاهرة إن لم تكن نصاً في مشروعية الجهاد الابتدائي، وسنتطرق إلى مناقشاته ونجيب عليها بشكل مجمل.

أما الفقرة الأولى فقوله _{عليه السلام}: «فسيف على مشركي العرب» إلى أن يقول: «هؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل».

وقد ناقش المرحوم شمس الدين[9] في الاستدلال بالفقرة الأولى على وجوب الجهاد الابتدائي بمناقشتين:

المناقشة الأولى إنه أخص من المدعى حيث أنه خاص بمشركي العرب دون غيرهم والمدعى هو وجوبه ضد الكفار مطلقاً.

وفيه: إن الرواية في مقام بيان حروب أمير المؤمنين _{عليه السلام} فالإمام الصادق _{عليه السلام} ينقل عن أبيه الإمام الباقر _{عليه السلام} وقد سئل عن جده أمير المؤمنين فالرواية بأقسامها الخمسة على لسان الإمام الباقر وهو في مقام الإخبار عن حروب جد أمير المؤمنين، والتعليق على هذه الحروب، والمهم هو تعليق الإمام الباقر _{عليه السلام}، وتوضيح الإمام الصادق _{عليه السلام}.

فلنقرأ المقطع الأول للإمام الباقر _{عليه السلام} يقول: «فسيف على مشركي العرب»، ثم قال: «فإن تابوا» يعني آمنوا، الإمام يوضح المراد بالتوبة الإيمان «وأقاموا الصلاة فإخوانكم في الدين فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام».

ومن الواضح أن المورد لا يخصص الوارد، فالإمام _{عليه السلام} في مقام بيان المورد الأول من حروب أمير المؤمنين، وبين النكتة في المورد الأول، فما هي النكتة في المورد الأول؟

هي قتال مشركي العرب حتى يؤمنوا، فنتمسك بعموم التعليل، فلا يلزم ما أفاده _{رحمه الله} من أنه أخص من المدعى، بل هو تمام المدعى لأن تمام المدعى ثبوت جهاد الدعوة إلى الله، أي القتال الابتدائي لدعوة الكفار والمشركين، غاية ما في الأمر مورد المقطع الأول هو قتال مشركي العرب، والنكتة في قتالهم أن يؤمنوا ويسلموا، فنتمسك بعموم التعليل الوارد فيها.

وذكر عدة مناقشات لا داعي لبحثها يعني إذا تنقح المطلب يكون الجواب واضح.

الفقرة الثانية التمسك بقوله _{عليه السلام}: «والسيف الثاني على أهل الذمة فمن كان في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل ومالهم فيء وذراريهم سبي».

وناقش في ذلك المرحوم الشيخ شمس الدين قائلاً: إن الفقرة تتضمن دعوى نسخ آية (وقولوا للناس حسنا) بآية الجزية وهو باطل لعدم ثبوت النسخ في القرآن أولاً مع أن الجمع العرفي بينهما ممكن، فلا يصار معه إلى النسخ لأن الدعوة بالحسنى هي الأصل والمبدأ إلا في حالة الاعتداء، فيقاتلون حتى يعطوا الجزية ثانياً، وهذا على أن الحديث على فرض صحته خارج مخرج التقية.

أقول: من الواضح عند الفقهاء أنه إذا جاءتنا رواية، وفي قسم منها اضطراب والقسم الآخر واضح الدلالة، فإن الاضطراب والإجمال يوجب سقوط حجية خصوص المضطرب ولا يوجب اضطراب تمام الرواية، فحجية الظهور بالنسبة إلى الرواية تنحل إلى الظهورات ومجموع الظهورات الموجودة في الرواية، فإن لم يمكن الاستظهار من بعض المقاطع نظراً لوجود اضطراب فيها فهذا لا يعني سقوط جميع الرواية عن الحجية والاعتبار.

وما نحن فيه من هذا القبيل لو سلمنا ما أفاده _{رحمه الله} فإننا نلتزم بأن نسخ في القرآن الكريم لم يثبت إلا في آية واحدة وهي آية النجوى، ولا نلتزم بالنسخ في هذه الآية، ويمكن الجمع كما أفاد _{رحمه الله} لكن ذكر الرواية لوقوع النسخ هنا مع عدم التسليم به لا يقتضي رفع اليد عن ظاهر المقطع الثاني الذي هو صريح في أن أهل الذمة يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا فإما القتل أو الجزية.

فالرواية ظاهرة في مشروعية الجهاد الابتدائي ضد أهل الذمة، وأن الملاك في قتال، القسم الأول وهم مشركو العرب، والقسم الثاني وهم أهل الكتاب هو دعوتهم إلى الإسلام، غاية ما في الأمر أن القسم الأول يخير بين القتل أو الإسلام، والقسم الثاني يخير بين القتل أو الإسلام أو دفع الجزية، فلا يوجد ما يدل على أنه خارج المخرج التقية، وهذا الحكم الفقهي من الواضحات في كتاب الجهاد عند الشيعة الإمامية، فلا توجد قرينة توجب حمل هذا الحديث على التقية.

لعل مراده _{رحمه الله} أنها ناظرة إلى ما فعله الخلفاء إذ قاموا بالفتوحات للبلدان، وكانت لهم ممارسات بالنسبة إلى أخذ الجزية وغير ذلك، فالإمام ذكر هذه الآية لكي يكون في سياق تلك الفتوحات.

الفقرة الثالثة قوله _{عليه السلام}: «والسيف الثالث على مشركي العجم، يعني الترك والديلم والخزر».

وقد ناقش المرحوم شمس الدين في ذلك بملاحظات:

فالملاحظة الأولى حصر مشركي العجم بهذه الطوائف الثلاث وهو أخص من المدعى، وهو يقتضي عدم وجوب جهاد المشركين الآخرين في العالم.

وفيه: ما ذكرناه من أن الرواية ذكرت الملاك وهو دعوة المشركين إلى الإسلام فلا يتم ما أفاده _{رحمه الله} من أن الدليل أخص من المدعى.

المناقشة الثانية قال _{رحمه الله}: لا وجه للفصل بين مشركي العرب والعجم بأن يكون لكل واحد منهما سبب مستقل فإن حكمهم واحد في الحديث، وهذا من أدلة الوضع والاضطراب المسقط له عن صلاحية الدليلية، ومن أدلة الوضع في الحديث إدخال كلام عمار بن ياسر في صلب الرواية، وفيه ما هو أجنبي عن الحديث بتاتاً.

وهذا منه غريب عجيب _{رحمه الله} أما بالنسبة إلى الفصل بين مشركي العرب ومشركي العجم فالإمام الباقر _{عليه السلام} في مقام بيان الحروب الخمسة التي قادها أمير المؤمنين _{عليه السلام} فهو في مقام الإخبار وليس في مقام بيان الملاك وأن سبب كل واحد يختلف عن الآخر هو في مقام بيان هذه الحروب الخمسة.

وثانياً الإمام _{عليه السلام} وضح الملاك في قتال المشركين مشركي العرب ومشركي العجم والكتابيين وهو دعوتهم إلى الإسلام، فلا يتم ما أفاده من أن الدليل أخص من المدعى.

والغريب كيف يرمي هذه الرواية بالوضع والاضطراب الذي يسقطها عن صلاحية الاستدلال؟! هذا غريب لأن سياق ومضمون الرواية مع ما عليه مشهور الفقهاء من الإمامية، كما أن إدخال كلام عمار بن ياسر ليس به بأس، لأن الإمام الصادق ينقل عن الإمام الباقر فالإمام الباقر يتكلم عن أمير المؤمنين وعن صاحبه الوفي عمار بن ياسر وثبات عمار بن ياسر في تلك الحروب، فما المانع من ذكره، بل الأوفق أن يذكر للتأييد.

إذا الحديث الثامن والعشرون تامُ الدلالة، ولكن يمكن المناقشة في سنده.

الحديث التاسع والعشرون يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين