بحوث في علم الرجال
شیخ الدقاق

18 - التحقيق في تضعيفات القميين ودعوى الغلو

بحوث في علم الرجال

  • الكتاب: بحوث في علم الرجال
  • الجزء

    -

  • الصفحة  

    -

20

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 التحقيق في تضعيفات القميين ودعوى الغلو

لقد كثرت دعوى الغلو والارتفاع والتخليط وفساد العقيدة في كلمات جملة من القميين كشيخهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، وشيخ الصدوق وأستاذه الشيخ محمد بن الحسن بن الوليد، وغيرهما، بل نجد هذه الدعاوى في رجال النجاشي، فهل للقميين مصطلح خاص ومعنى خاص للغلو؟ أو أنهم يجرون في دعوى الغلو على ما عليه المصطلح العام والمعروف عند الشيعة الإمامية؟

ذهب المحقق الكبير الشيخ محمد تقي التستري في كتابه قاموس الرجال إلى أن الغلو عند القميين هو نفس المصطلح المعروف للغلو عند غيرهم، فالمغالون يقولون حب علي حسنة لا تضر معها سيئة فيرون أن الولاية تكفي عن إقامة الصلاة والقيام بالواجبات، فكان المغالون يتركون الواجبات، وبالتالي تكون علامة المغالي ترك الصلاة وعدم اعتنائه بالوظائف والتكاليف الشرعية، أي أن المغالي هو من يعتمد على ولاية أهل البيت عليهم السلام، ويترك الصلاة والواجبات اتكالاً على ولاية أهل البيت صلوات الله وسلامه عليه.

ولنقرأ ما ذكره المحقق التستري ثم نناقشه قال رحمه الله ما نصّه:

«كثيراً ما يرد المتأخرون طعن القدماء في رجلٍ بالغلو، بأنهم رموه به لنقل معجزاتهم، وهو ردٌّ غلط فإن كونهم عليهم السلام ذو معجزات من ضروريات مذهب الإمامية، وهل معجزاتهم وصلت إلينا إلا بنقلهم؟! وإنما مرادهم بالغلو ترك العبادة اعتماداً على ولايتهم عليهم السلام.

فروى أحمد بن الحسين الغضائري عن الحسن بن محمد بن بنداري القمي، قال: «سمعت مشايخي يقولون: أن محمد بن أورمه لما طعن عليه بالغلو بعث إليه الأشاعرة ليقتلوه، فوجدوه يصلي الليل، من أوله إلى آخره، ليالي عدة، فتوقفوا عن اعتقاده».

بيان:

المراد بالأشاعرة، الأشاعرة نسباً، أي أحمد الأشعري وذووه، لا الأشاعر مذهباً الأشعري المعروف وأتباعه.

وعن فلاح السائل لعلي بن طاووس عن الحسين بن أحمد المالكي، قلت لأحمد بن مالك الكرخي عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو، فقال: «معاذ الله هو والله علمني الطهور».

وعنون الكشي جمعاً منهم علي بن عبد الله بن مروان، وقال: «إنه سأل العياشي عنهم، فقال: وأما علي بن عبد الله بن مروان فإن القوم» يعني الغلاة «يمتحنون في أوقات الصلاة ولم اَحضره وقت الصلاة».

وعنون الكشي أيضاً الغلاة في وقت الهادي عليه السلام وروى عن أحمد بن محمد بن عيسى «كتبت إليه عليه السلام في قم يتكلموا أحاديث ينسبونها إليك وإلى آبائك، قال: ومن أقاويلهم أنهم يقولون أن قوله تعالى: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء) معناها رجلٌ لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد درهم ولا إخراج، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي، فأولوها وصيروها على هذا الحد الذي ذكرت لك»[1].

والتحقيق:

أن ما ذكره المحقق التستري من معنى الغلو هو أحد المعاني المسلمة للغلو وهو ترك الصلاة والعبادة والطاعات اعتماداً على ولاية أهل البيت، فهذا صحيح لكن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، وللغلو معاني متعددة، ومن يراجع كلمات الرجاليين خصوصاً القميين يجد أن كلماتهم مختلفة، وهناك مسالك متعددة في بيان معنى الغلو، فما هو الدليل على حصر معنى الغلو عند القميين في خصوص هذا المعنى وهو ترك الطاعة اعتماداً على الولاية؟! فمجرد ذكر عدة شواهد على هذا المعنى لا يثبت أن هذا المعنى حصراً هو الذي يريده أهل قم ومدرسة الري.

ويكفي للتدليل على وجود معنى آخر للغلو غير هذا المعنى هو ما ذكره الشيخ الصدوق في المسألة المعروفة والمشهورة، وقد تعرض لها في أشهر كتبه وهو كتاب من لا يحضره الفقيه عند ذكره لرواية سعيد الأعرج المثبتة لنوم النبي صلى الله عليه وآله عن صلاة الفجر حتى طلعت عليه شمس، وإسهائه في صلاته بعد ذلك.

وحيث أن الصدوق رحمه الله كان يتبنى هذا المعنى بقوة قال ما نصّه:

«إن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي صلى الله عليه وآله ويقولون: لو جاز أن صلى الله عليه وآله في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ، لأن الصلاة عليه فريضة، كما أن التبليغ عليه فريضة، إلى أن يقول ـ وهذا موطن الشاهد ـ وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: «أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي» ولو جاز أن ترد الأخبار في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار، وفي ردها إبطال الدين والشريعة»[2].

فإذا يوجد معنى آخر للغلو وأول درجات الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله فحتى لو كان مواظباً على الصلاة والطاعات، وأعتقد بأن النبي لا يسهو فهو مغالٍ، وقد ردّ على الصدوق شيخنا المفيد، وقال: إذا أثبت السهو للنبي فأنت مقصر، بل في كلام المفيد ما يفيد وجود اختلاف فهناك من يرمي هذا المعتقد بالغلو وهناك من يرمي هذا المعتقد بالتقصير، فمن الواضح أن مصطلح الغلو لم يكن واحداً عند القميين.

فلنقرأ ما قاله الشيخ المفيد، ولننظر ما قاله الصدوق في باب نفي الغلو والتفويض من كتابه الاعتقادات فقال: «وعلامة المفوضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلمائهم إلى القول بالتقصير»[3].

إذا واضح من كلام الصدوق أن المراد بالغلاة هنا ليس خصوص من ترك الصلاة اعتماداً على الولاية بل ناظر إلى مقامات أهل البيت فبعضهم يرى أنها فيها غلو والبعض يرى أن فيها تقصير.

ثم علق الشيخ المفيد على الشيخ الصدوق في رسالته تصحيح اعتقادات الصدوق قائلاً:

«فأما نص أبي جعفر رحمه الله بالغلو على من نسب مشايخ القميين وعلمائهم إلى التقصير، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس إذ في جملة المشار اليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصراً» يعني الشيخ المفيد يعتقد أن بعض مشايخ قم كان مقصراً في مقامات الأئمة.

ثم قال: «وإنما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحققين إلى التقصير سواء كانوا من أهل قم أم غيرها من البلاد وسائر الناس، وقد سمعنا حكاية عنه أنه قال: «أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي والإمام» فإن صحة هذه الحكاية فهو مقصر مع أنه من العلماء القميين ومشيخته» فالشيخ المفيد يعني جاء بالصغرى وطبق الصغرى على نفس الصدوق.

«وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمة عن مراتبهم ويزعمون أنهم عليهم السلام كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول: إنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدعون مع ذلك أنهم من العلماء، وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه»[4] انتهى كلامه زيده في علوه مقامه.

يعني جواب على نحو القضية شرطية لأنه قد يشكك مشككون في صحة هذه النسبة، ولكن هذه النسبة صحيحة، ولكن لعل هذا الكتاب لم يصل إليه في ذلك الوقت الذي كتب هذا الكتاب.

أقول: يستفاد من كلام الشيخ المفيد معلم الأمة أن مصطلح الغلو ناظر إلى مراتب الأئمة ومقاماتهم فمن رفعها في غير موضعها فهو غالٍ، ومن نزل الأئمة عن مراتبهم فهو مقصر، ولا يفهم من كلام الشيخ المفيد أن المراد بالغلو هو من ترك الطاعة اعتماداً على الولاية.

وهذا البحث طويل لا داعي للإطالة فيه، ويمكن الرجوع إلى هذا الكتاب الغلو في مصطلح الملل والنحل والرجال، تأليف الشيخ محمد باقر ملكيان، خمسمائة واثنين وتسعين صفحة، دراسة عن الفرق والرواة الغالين، وقد تطرق في هذا الكتاب الكريم إلى أبحاث مهمة بين معنى الغلو في مصطلح علم الملل والنحل، وبين معنى الغلو في الرجال.

في البداية شرح للمعنى اللغوي والاصطلاحي للغلو، ثم في الفصل الأول بين الفرق الغالية بين الحقيقة والأوهام، والمهم في بحثنا هو الفصل الثاني صفحة ثلاثمائة وثلاثة عشر الغلو في مصطلح الرجال، ثم بعد ذلك تطرق إلى الأسماء التي ادعي فيها أنها مغالية، فذكر آدم بن محمد القلانسي البلخي صفحة ثلاثمائة وخمسين إلى يونس بن ظبيان وهو رقم مائة وواحد وثلاثين صفحة أربعمائة واثنين وستين، فقد تطرق المؤلف إلى مائة وواحد وثلاثين راوٍ ادعي في حقهم الغلو والمهم في بحثنا هو مصطلح الغلو عند علماء الرجال وعلماء الفقه.

ويذكر عدة شواهد ابتداءً بالصدوق إلى الشيخ الأعظم الأنصاري ويتضح من هذه النقولات أن مصطلح الغلو ليس له ضابط معينة، بل يخضع لمعتقد هذا الشخص، فيعتقد أن هذا غلو ويعتقد أن هذا تقصير.

ولكن يوجد معنيان معروفان للغلو:

المعنى الأول في أئمة أهل البيت عليهم السلام أي إعطاءهم ما ليس لهم كتفويض أمر الكائنات إليهم.

المعنى الثاني الاعتقاد بأن معرفة الإمام وولاية المعصوم تكفي عن الفرائض فيتركون الصلاة وجميع الطاعات اعتماداً على ولايتهم.

والكثير مما ورد في كتب الرجال بأن فلان غالٍ فهو بهذا المعنى، ولكن لا نسلم أن جميع من رمي بالغلو هو بهذا المعنى، والقرينة على ذلك أنهم رموا آخرين بالغلو وهم أنفسهم قد رماهم غيرهم بالغلو، وكلهم من العباد ومن الرواة، ولكن رموا غيرهم بالغلو اعتقاداً منهم أن الآخرين زادوا في مقامات أهل البيت وأعطوهم ما ليس لهم، والحال أيضاً أنه قد جاء غيرهم ورماهم أنفسهم بالغلو.

النتيجة النهائية: مصطلح الغلو ليس له ضابطة واحدة ومعينة عند جميع القميين، نعم هناك معنيان مشهوران معروفان:

الأول إعطاء أهل البيت من المقامات ما ليس لهم.

الثاني ترك الطاعات اعتماداً على ولاية أهل البيت عليهم السلام.

فتكون النتيجة: عدم قبول توثيقات وتضعيفات القميين بشكل مطلق، بل لابد من النظر في أساسها، فإذا كان الموثق أو المضعف قد وثق أو ضعف اعتماداً على رأيه الخاص في الغلو أو على رأي اعتقادي خاص به فحينئذ لا يمكن الأخذ بطعنه وتضعيفه، كيف وقد تراجع بعضهم ندماً فقد أخرج شيخ القميين أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، أحمد بن محمد بن خالد البرقي، لأنه يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل.

لكنه لما مات البرقي مشى الأشعر القمي في جنازته حاسر الرأس حافي القدمين وقد صلى عليه معرباً عن ندمه.

كما قام بطرد سهل بن زياد الآدمي لأنه يروي روايات كان يرى الأشعري القمي أن فيها غلو.

إذاً لا بدّ من التأمل في تضعيفات القميين والشيخ النجاشي خصوصاً فيما يرتبط بدعوى الغلو، وأما تضعيفات ابن الغضائر فسيأتي الكلام عليها فالكثير منها من هذا المسلك، لذلك لا بد أن نفرق بين ضعيف وبين ضعيف في الحديث، ضعيف ضعيف في الحديث في العقيدة، فلابد من التأمل ولا يمكن الأخذ بتوثيقات وتضعيفات القميين بنحو مطلق من دون النظر إلى مدركهم ورؤيتهم العقائدية والفكرية التي قد تكون أدت إلى هذا التوثيق أو التضعيف، والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  قاموس الرجال، للمحقق الشيخ محمد تقي التستري، ج 1، ص 66.

[2]  كتاب من لا يحضره الفقيه، الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي الصدوق، ج 1، ص 395.

[3]  مصنفات الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان المفيد، ج 10، رسالة عدم سهو النبي.

ونقل هذه الرسالة بتمامها الشيخ المجلسي في البحار، بحار الأنوار، ج 17، ص 222.

[4]  مصنفات الشيخ المفيد، ج 5، تصحيح الاعتقاد، ص 135.

وأيضاً ذكرها في بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 17، ص 100 و ج 25، ص 345.

00:00

20

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 19 الجلسة

20

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: بحوث في علم الرجال
  • الجزء

    -

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
19 الجلسة