التفسير الترتيبي
شیخ الدقاق

29 - بحث فلسفي في سورة الحمد

التفسير الترتيبي

  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

26

2024 | نوفمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 بحث فلسفي في سورة الحمد

بحث فلسفي في سورة الحمد، يراجع الميزان في تفسير القرآن للسيد محمد حسين الطباطبائي، صفحة 24 إلى 27.

من المباحث التي تبحث في الفلسفة «بحث العلة والمعلول» والبراهين العقلية قد دلت على أن استقلال المعلول وكل شأن من شؤونه إنما هو بالعلّة، فكل ما للمعلول من كمال وجمال فهو من ظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود، فكماله واستقلاله للواجب تبارك وتعالى، لأن الله عزّ وجل واجب الوجود هو العلة التي ينتهي إليها جميع العلل، فهو علة العلل والمعلول قائم بالعلّة، وكمال وجمال المعلول إنما هو من ظلال علته.

وبعبارة أخرى:

أولاً: أصل وجود الممكن.

ثانياً: ما يتفرع على وجود الممكن من صفات كالجمال.

هذان الأمران تابعان للعلة، فأصل وجود الممكن لا يتحقق لولا إيجاد الواجب، والصفات التي تكون في الممكن والكمالات إنما هي ظلال للواجب.

من هنا اتضح أن الثناء كل الثناء والحمد هو لله تبارك وتعالى، فالثناء والحمد هو إظهار موجود ما بوجوده وهو الإنسان الممكن وسائر الممكن، يظهر كمال موجود آخر، وهذا الموجود الآخر هو علته لا محالة بلا شك ولا ريب.

إذن، كل كمال ينتهي إلى الله تبارك وتعالى، فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهي إلى الله تبارك وتعالى.

ومن هنا قالت الآية: (الحمد لله رب العالمين).

الحمد أي جنس الحمد، فـ «أل» إما جنسية وإما استغراقية، والفرق بينهما باللحاظ والاعتبار، فإذا لاحظت طبيعة وجنس الحمد، فهذه أَل الجنسية، وإذا لاحظت الأفراد التي يشملها الحمد، يعني أفراد الحمد وأفراد الثناء، فهذه أَل الاستغراقية.

إذن إما تلحظ الطبيعة فتكون أَل جنسية، وإما تلحظ أفراد الطبيعة فتكون أَل استغراقية.

(الحمد لله) أي طبيعة وجنس الحمد والثناء مختص بالله، وكل أفراد الحمد والثناء أيضًا تختص بالله.

(رب العالمين) سؤال: ما المراد بالعالمين؟

عالم الإنس وعالم الجن.

(الحمد لله رب العالمين) عالمين من عالم، العالم الكون وما فيه وكل ما في الكون، لكن قال: "العالمين" لأن أبرز عالم للتكليف هو الإنس والجن، الإنس مكلفون، والجن أيضًا مكلفون.

قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين).

العبد هو المملوك من الإنس، هذا الإطلاق الأول، ويوجد إطلاق ثاني لعبد، وهو كل ذي شعور توسعة لمعنى العبودية وتجريدًا لمعنى العبودية، وهو يستفاد من قوله تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبدا) فهنا أطلق العبد على كل من في السماوات، والمراد كل ذي شعور في السماوات يأتي عبدًا لله تبارك وتعالى.

والعبادة ربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة فيها نظرًا لاختلاف الموارد. نعم، ذكر الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية هو الخضوع، لكن الصحيح أن هذا من باب الأخذ بلازم المعنى، وهو الملكية، فالخضوع غير العبادة، الخضوع لازم للملكية، فلأن هذا عبدي يلزم أن يخضع لي، فالخضوع ليس هو العبودية، وإنما هو لازم المعنى.

فالخضوع يتعدى باللام، فتقول: خضع العبد فلان لسيده، بينما العبادة تتعدى بنفسها، فيقول: عبد سيده، ولا يتعدى باللام، لا يقال: عبد لسيده. إذن، العبادة تتعدى بنفسها، تقول: عبدت الله، بينما الخضوع يتعدى باللام، فتقول: خضعت لله.

والزبدة: العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملكية لربه، ومن هنا كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك، فمن الجائز أن يكون العبد الواحد مشتركًا في ملك الرقبة، فيجوز أن يكون هذا العبد مشتركًا لعدة موالي. قال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)[1] أي أن الاستكبار لا ينسجم مع العبادة.

(ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) يعني لا يدعونني (سيدخلون جهنم داخرين) سؤال: لماذا العبادة لا تلتقي مع الاستكبار؟ لأن العبادة معناها الملكية، والمملك لا يتكبر على مالكه، بخلاف الشرك، فإنه قد يلتقي مع العبادة. قال تعالى: (ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا)[2] فعد الإشراك ممكنًا، ولذلك نهى عنه، والنهي لا يمكن إلا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة، فإنه لا يجامع العبادة.

لا ينهى عن غير المقدور، النهي عن الشيء فرع كونه مقدور، فلما نهى عن الإشراك في العبادة، يعني ممكن أن يجتمع الشرك مع العبادة، لكن الاستكبار لا يتحقق ولا يلتقي مع العبادة.

[الفرق بين المالكية الحقيقية والمالكية الاعتبارية]

توجد ملكية اعتبارية كملكية الإنسان لأمواله وعبيده، وتوجد ملكية حقيقية وهي ملكية الله واجب الوجود لسائر مخلوقاته الممكنة. فما الفارق بين العبوديتين الحقيقية والاعتبارية؟ وما الفارق بين المالكية الحقيقية والاعتبارية؟

أما العبودية الاعتبارية، إنما تستقيم بين العبيد ومواليهم، فيما يمكن أن يملكه الموالي منهم، وأما ما لا يتعلق به الملك، من شؤون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذي طول في قامته، فلا يتعلق به عبادة ولا عبودية.

لكن الله سبحانه وتعالى في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت والواصف فلا ملكه يشوبه ملك من سواه، ولا أن العبد يتبعض في نسبته إلى الله تعالى فيكون شيء منه مملوكًا وشيء آخر غير مملوك، ولا يكون تصرف من التصرفات فيه جائزًا، وتصرف آخر غير جائز.

إذن، ملكية الله مطلقة، والملكية الاعتبارية مقيدة.

أمر آخر: إن العبيد في الملكية الاعتبارية يوجد شيء منهم مملوك، وهو أفعالهم الاختيارية، وشيء آخر غير مملوك، وهو أوصافهم الاضطرارية. بعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم وعملهم، وبعض التصرفات غير جائزة بالنسبة لهم كقتلهم من غير جرم.

إذن، توجد قيود في التصرف في المملوكات الاعتبارية، بخلاف المالك الحقيقي، وهو الله تعالى، فهو مالك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد. وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد.

إذن، يوجد حصر من جهتين:

الأول: الرب مقصور في المالكية.

الثاني: العبد مقصور في العبودية.

يعني توجد مالكية صرفة وخالصة لا يشوبها شيء، وتوجد عبودية صرفة وخالصة لا يشوبها شيء، يعني لا توجد شروط وقيود في مالكية الله لعبيده، ولا توجد شروط وقيود بحيث يكون هناك دخيل مع الله في عبادة عبيده.

وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) أي نحصر العبادة بك، ونحصر الاستعانة بك، فلم يقل أعبدك، لم يقل نعبدك ونستعينك، ولم يقل نعبدك ونستعين بك، فقدم المفعول به وهو "إياك" وأخر الفعل وهو "نعبد" و"نستعين"، وهذا يدل على حصر العبودية بالله وحصر الاستعانة بالله.

فارق آخر في الملكية الاعتبارية يوجود حاجب بين المالك والمملوك، بينما في الملكية الحقيقية لا يوجد حاجب وحاجز بين المالك والمملوك، فالملك حيث كان متقوم الوجود بمالك، فلا يوجد حاجب بين المالك والمملوك، فإذا نظرت إلى دار زيد، فإنك نظرت إليها من جهة أنها دار، وحينئذ يمكنك أن تغفل عن زيد، لكن إن نظرت إليها بأنها ملك زيد، لم يمكنك الغفل عن مالكها وهو زيد.

هذا بالنسبة إلى المملوكية الاعتبارية، حيث ملك زيد للدار.

أما بالنسبة إلى المملوكية الحقيقية والملكية الحقيقية، فإنه لا يوجد مالك إلا الله حقيقة، فما سوى الله ليس له إلا المملوكية فقط، فحقيقة كل ما عدا الله هو المملوكية الخالصة الصرفة، والله المالك الحقيقي لا يحجبه أي شيء عن مملوكاته الصرفة.

فالله له حضور مطلق، وجميع المخلوقات حاضرة لديه، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهيدٌ. أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ. أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)[3].

إذن، هذا ما يقال له القيومية، الله قائم على خلقه محيط بشؤون مخلوقاته.

إذا تم هذا، إذن حق عبادة الله أن يكون عن حضور من الجانبين:

الجانب الأول جانب الرب عز وجل، فيُعبد عبادة معبود حاضر، وهذا هو الموجب للالتفات من الغيب إلى الحضور، وهو مأخوذ في قوله تعالى: (إياك نعبد)، يعني بداية سورة الحمد ضمير الغيبة (بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * مالك يوم الدين)، لأنه مالك يوم الدين. لأنه المالك الحقيقي أوجب ماذا؟ الحضور فقد حصل الالتفات، أي تغيير الخطاب وتغيير الضمير من الغيب إلى الحضور (إياك نعبد) يعني أنت "إياك نعبد"، هذا من الجانب الأول جانب الرب.

الجانب الثاني جانب العبد، فيكون عبادته عبادة عبد حاضر، من غير أن يغيب في عبادته بحيث ما تكون عبادة العابد عبادة صورية من غير معنى، تكون عبادة جسد من غير روح، أو يتبعض هذا العابد فيشتغل بربه ويشتغل بغيره، أو يكون الظاهر شيئًا والباطن شيئًا آخر كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معاً، أو باطناً فقط، كمن يشتغل في عبادته بغير الله بنحو الغايات والأغراض، كأن يعبد الله ولكن همه في غير الله، أو يعبد الله طمعًا في جنةٍ أو خوفًا من نار، فإن ذلك كله من الشرك الخفي في العبادة الذي ورد النهي عنه، قال تعالى: (فاعبد الله مخلصًا له الدين)، وقال تعالى: (أَلَا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون)[4].

خلاصة ما وصلنا إليه:

العبادة الحقيقية إنما تكون عبادة حقيقة إذا كانت العبادة على خلوص من العبد، وهو هذا الحضور الذي يكون عند العبد، وقد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل العبد بغير الله في عمله، فيكون العبد قد أعطاه الشرك في عبادته، ولم يتعلق قلبه بالله رجاءً أو خوفًا، هذا مشكل كله مشكل.

إذاً، العبد يظهر العبادة الخالصة لله، سؤال: لماذا أردفقها بالاستعانة قال: (إياك نعبد، وإياك نستعين)؟

الجواب: إذا أظهر العبادة وقال: "أنا أعبدك وأخصك بالعبادة"، فهذا العبد قد يبتلى بالأنانية، وأنه نسب العبادة إلى نفسه، فحينئذ، يقول: (وإياك نستعين)، يعني: وبك استعين في قدرتي على العبادة، ولولا إعطائك إياي القدرة على العبادة لما عبدتك.

إذاً أن العبد في البداية يظهر العبودية الخالصة، لكن يخشى على نفسه أنه معتد بنفسه، فيردفها ويقول: (وإياك نستعين).

إذن، اتضح من هذا البيان الوجوه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، أي أن ملكية المالك بالمملك وإحاطته به تستدعي الحضور فلما قال: (مالك يوم الدين)، جاء بخطاب الالتفات، قال: (إياك نعبد وإياك نستعين).

وتبين الوجوه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، لأن المالك الحقيقي هو الله فالعبادة والاستعانة محصورة بالله عز وجل.

وتبين الوجوه في إطلاق قوله: (نعبد)، إذ أنه لم يقل "إياك أعبد"، بل قال: (إياك نعبد)، لإشراك الجميع دفعًا للأنانية.

وأيضًا اتضح الوجوه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، وهو (نعبد)، ولم يقل (أعبد).

واتضح الوجوه في تعقيب الجملة الأولى بالثانية، إذ لو اقتصر على خصوص (إياك نعبد)، فلربما ينسب العبادة إلى نفسه ويدعيها ويعتد بنفسه، فقال: (وإياك نستعين)، لدفع هذا الاعتداد.

وتبين الوجوه في تشريك الجملتين في السياق، وأن الكل يلجأ إلى الله عز وجل.

ثم يختم صاحب الميزان البحث الفلسفي بكلمة عظيمة، يقول في صفحة 27:

«وقد ذكر المفسرون نكات أخرى في أطراف ذلك. من أرادها فليراجع كتبهم، وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه» يعني ديننا بدين، لا يعني نحن نعجز عن قضاء دينه وشكر آلائه.

هذا تمام الكلام في البحث الفلسفي، نختم إن شاء الله سورة الفاتحة ببحث روائي مهم فيها، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

 

[1]  سورة غافر، الآية 60.

[2]  سورة الكهف، الآية 110.

[3]  سورة السجدة، الآية 54.

[4]  سورة الزمر، الآية 3.

00:00

26

2024
| نوفمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 37 الجلسة

26

نوفمبر | 2024
  • الكتاب: تفسير القرآن الكريم
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
37 الجلسة