بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 التحقيق مصطلح ثقة

التحقيق إن مصطلح "ثقة" لا يستبطن العدالة والإمامية.

قلنا قد ادعى البعض أن لفظ ثقة يفيد معنى مركب من أربعة أمور: الأول صدق اللهجة والتحرز عن الكذب؛ الثاني الضبط؛ الثالث العدالة؛ الرابع الإمامية.

وقد اتضح أن الأول والثاني صحيح، فهذا ما يتبادر من لفظ الثقة، وهذا هو المتداول عند علماء الرجال.

يبقى الكلام في الثالث والرابع، فلابد من دراستهما بالتفصيل.

المصطلح الأول العدالة.

قيد العدالة، فإنه يظهر أن من أضعف إلى قيد العدالة قيد الإمامية، فإنه يريد من العدالة كون الشخص لا يرتكب المعاصي ولو على مذهبه، فالعدالة هي الاستقامة في جادة الشريعة، فإذا فسرنا الشريعة بالشريعة الحقة، أي الإمامية، فحينئذ لا فارق بين العدالة والإمامية، فكل عادل إمامي، بخلاف ما لو قلنا إن المراد بالشريعة شريعة نفس الراوي، فهو مستقيم في جادة الشريعة التي يعتقدها، فمن اكتفى بقيد العدالة ولم يذكر الإمامية، وقال إن الشروط ثلاثة، فهو يرى أن المراد بالعدالة هي الاستقامة في جادة الشريعة الحقة، أي الإمامية.

وأما من أضاف قيد الإمامية، فهو يرى أن العدالة هي عبارة عن الاستقامة في جادة شريعة الراوي، فيكفي لتحقيق العدالة كون الشخص لا يرتكب المعاصي، ولو على مذهبه الفطحي أو الزيدي.

ومن هنا أطر إلى إضافة قيد "الإمامية"، خصوصًا إذا التفتنا إلى أن كثيرًا ممن صدر منهم التوثيق هم أصحاب المذاهب الفاسدة، كبني فضال الفطحية وابن عقدة الزيدي وابن نمير وغيرهم ممن نقلت توثيقاتهم في الكتب الرجالية.

[الأدلة]

استدل القائل بأن لحظة "ثقة" تفيد العدالة بعدة أدلة نذكر دليلين:

الدليل الأول: دعوى أن مصطلح العدالة مصطلح خاص بأئمة الجرح والتعديل، وقد استفيد من عدم استعمال أئمة الرجال لمصطلح العدالة هنا إلا بهذا المعنى، أي أن لفظ العدالة تستعمل في أبواب الفقه بالمعنى الأعم من العدالة، كما نص على ذلك الشهيد الثاني في الرعاية في علم الدراية صفحة مائتين وثلاثة، ونقل السيد محمد المجاهد في مفاتيح الأصول صفحة ثلاثمائة وستة وسبعين عن والده صاحب الرياض أن معنى العدالة معنى مصطلح عليه بين المتشرعة فيما أفاده الشهيد الثاني، كما أشار الوحيد البهبهاني في فوائده إلى ما يقرب من هذا الكلام.

يراجع الفوائد الرجالية لشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني صفحة ثمانية عشر.

إذن خلاصة الدليل الأول إن لفظ العدالة أو "عدل" مصطلح خاص بين أئمة الجرح والتعديل، يراد به أن "الثقة" إمامي وأن "الثقة" عادل.

واضح الدليل إن شاء الله، التمسك بأن أئمة الرجال لديهم مصطلح خاص في العدالة، وهذا المصطلح مستبطن في لفظ "ثقة"، لذلك لم يذكروا لفظ "عدل" واكتفوا بمصطلح "ثقة"؛ لأنهم قد تبانوا على أن مصطلح "ثقة" يستبطن العدالة.

وفيه هذا الكلام يفيد دعوى النقل في لفظ العدالة، ونقل لفظ العدالة من معناها اللغوي إلى معنى خاص ومصطلح خاص عند الرجاليين، فيصير لفظ "ثقة" ولفظ "عدالة" حقيقة اصطلاحية عند الرجاليين، وهذا لا يمكن الالتزام به إلا بأحد أمرين:

الأمر الأول: تصريح أئمة الرجال بأن يقولوا: كلما ذكرنا اصطلاح "ثقة"، فإننا نقصد أن الراوي عدل.

الثاني: التمسك بظهور كلام الرجاليين المحفوف بالقرائن بأن نجد الرجاليين إذا ذكروا لفظ "ثقة"، فإنهم يقصدوا أنه عادل.

أما الأمر الأول، وهو استفادة عدالة الثقة من تصريح أئمة الرجال، فليس له عين ولا أثر في كلام أحد من المتقدمين، فلو راجعنا كتبهم الرجالية أو غيرها، لا نجد هكذا تصريح.

الثاني، أي استفادة العدالة من مفردة "الثقة" من خلال القراءة، حيث إن الشهيد الثاني رحمه الله ادعى أن لفظ "الثقة" لم تستعمل في كلمات الرجاليين إلا بهذا المعنى، أي بمعنى الثقة العادل. لكن لو تتبعنا كلمات الرجاليين، فإننا لا نجد قرائن تثبت أن لفظ "الثقة" يستبطن العدالة، بل القرائن بالعكس، إذ أن الرجاليين يعقبون مفردة "الثقة" بكلمات أخرى وقيود إضافية، مما يعني أن هذه القيود لا تستبطنها مفردة "الثقة”.

خصوصًا إذا راجعنا كلمات النجاشي في الكثير من التراجم، فإنه يستخدم هذه المصطلحات، فيقول: "ثقة في الحديث" أو "ثقة ورع" أو "ثقة سالم خير"، أو "ثقة لا يطعن عليه بشيء"، أو "ثقة في رواياته"، أو "ثقة فيما يرويه"، أو "ثقة سليم"، "لا بأس فيه"، ولا شك إلى غير ذلك من الكلمات التي يبرز فيها الرجالي أمانة الراوي وضبطه في النقل.

إذن، الدليل الأول ليس بتام، فمن قال إن مصطلح "الثقة" يستبطن العدالة عند الرجاليين في مصطلحهم الخاص، فهذا المصطلح الخاص لم يصرحوا به أولاً، ولم تدل عليه القرائن ثانياً.

[الدليل الثاني]

إن التصريح في كلمات الرجاليين بالوثاقة إنما يكون للعمل بالرواية، ولا يجوز العمل بالرواية إلا إذا اقترن بالعدالة.

يراجع مفاتيح الأصول للسيد محمد المجاهد صفحة ثلاثمائة وسبعة وسبعين.

وفيه إن اشتراط العدالة في الراوي زيادة على تحرزه عن الكذب لم يعلم أنه مذهب أحد من المتقدمين العامل بخبر الواحد، بل الظاهر من سيرة القدماء وديدنهم الاعتماد على الراوي المتحرز عن الكذب من دون النظر إلى الحيثيات الأخرى، فالمهم أن لا يتعمد الكذب وأن يكون صادق اللهجة، وإن اختلف مذهبه.

ويكفي للتدليل على ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي في العدة، وهذا نصه:

"فأما من كان مخطئًا في بعض الأفعال أو فاسقًا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته متحرزًا فيها، فإن ذلك لا يوجب رد خبره ويجوز العمل به؛ لأن العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادة وليس بمانع من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم" عدة الأصول، شيخ محمد بن حسن الطوسي صفحة 152.

الخلاصة:

المشهور بين المتقدمين اشتراط الوثاقة وعدم اشتراط العدالة في رجال الحديث، نعم اشتهر اشتراط العدالة بعض المتأخرين ممن تأخر عن الشيخ الطوسي والنجاشي، كالعلامة الحلي، والشهيد الثاني، والشيخ حسن بن الشهيد الثاني، والسيد محمد سبط الشهيد الثاني صاحب المدارك.

وبهذا الكلام يندفع ما أفاده السيد محمد المجاهد في مفاتيح الأصول صفحة 377 من أن من اكتفاء ببعضهم بالأعم من العدالة مما لا يوجب حمل المصطلح عليه بعد كون الرجالي بصدد إبداء اصطلاح يكون نافعاً للكل؛ إذ أن الشيخ الطوسي والنجاشي من المتقدمين وهما ليسا ملزمين بالاصطلاح الذي تحقق عند المتأخرين.

وبذلك يتضح الخلل فيما قيل من أن المتبادر من لفظ "ثقة" عند إطلاقها هو معنى عادل، كما أنه يصح سلبها عمن لم يكن كذلك.

وجه الخلل أن التبادر الحجة، والذي يكون علامة الحقيقة، هو التبادر الذي ينشأ من حاق اللفظ، بخلاف التبادر الذي ينشأ من قرينة عامة أو قرينة خاصة، وقد اتضح عدم وجود قرينة خاصة أو قرينة عامة تدل على أن المراد بلفظ "ثقة" أنه عادل.

النتيجة:

لم يدل الدليل على أن مصطلح "ثقة" يستبطن العدالة، كما أنه قد يقال ويستدل بأن العادل هو الفرد الكامل من الثقة، وبالتالي ينصرف إليه لفظ "الثقة" عند إطلاقه، وفيه أن كلمة "عادل" ليست من أفراد الثقة، فضلًا عن أن تكون هي الفرد الكامل للثقة.

ولعل هذا من باب اختلاط المفهوم بالمصداق، فمفهوم العادل هو من استقام في جادة الشريعة، ومفهوم الثقة هو صادق اللهجة الذي يتحرز عن الكذب، وهما بينهما تباين في المفهوم، لكنهما قد يلتقيان في الصدق في بعض الأفراد.

هذا تمام الكلام في المصطلح الأول واتضح أن لفظ "ثقة" لا يستبطن معنى العدالة.

يبقى الكلام في أن لفظ "الثقة" هل يستبطن مفردة الإمامية أو لا؟، سيتضح إن شاء الله أنه لا يستبطن، والله العالم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين