بحوث في علم الرجال
شیخ الدقاق

26 - عدم دلالة مصطلح ثقة على قيد الإمامية

بحوث في علم الرجال

  • الكتاب: بحوث في علم الرجال
  • الجزء

    -

  • الصفحة  

    -

11

2024 | ديسمبر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

 عدم دلالة مصطلح ثقة على قيد الإمامية

عدم دلالة مصطلح "ثقة" على قيد الإمامية، وقد يستدل على أن كلمة "ثقة" في كلمات الرجاليين تتضمن قيد كون الراوي إمامياً بعدة أدلة.

الدليل الأول: إن هذا هو المصطلح عليه بين علماء الرجال، فإن كلمة "ثقة" تستبطن أربعة قيود:

القيد الأول: صدق لهجة الراوي وتحرزه عن الكذب.

القيد الثاني: ضبط الراوي.

القيد الثالث: عدالة الراوي.

القيد الرابع: إيمانية الراوي.

وقد ذكر بعضهم أن القيود ثلاثة بدمج الثالث والرابع، فيكتفى بقيد العدالة لأنها تدل على الإمامية.

ويمكن مراجعة استدلال الكثير من المتأخرين على أن كون "ثقة" تدل على الإمامية، والمصطلح بين علماء الرجال، فيُراجع كتاب "مقابيس الهداية في علم الدراية" للشيخ عبد الله المامقاني، الجزء الثاني، صفحة 147.

وفيه إن دعوى كون لفظة " "ثقة" تستبطن الإمامية، وأن هذا هو المصطلح الشائع بين علماء الرجال، تحتاج إلى دليل، فإما أن يصرحوا بذلك وإما أن يكون ظاهر كلامهم محفوفاً بقرائن تدل على ذلك، وكلاهما مفقود في المقام. فلم نجد تصريحين من أئمة الرجال المتقدمين أنهم إذا قالوا "فلان ثقة" فهذا يعني أنه إمامي، كما لم نظفر بقرائن لفظية أو مقامية وغير ذلك تدل على أن مصطلح ثقة عند المتقدمين يستبطن إمامية الراوي.

إذن الدليل الأول ليس بتام.

الدليل الثاني: الظاهر من الرواة عن أئمتنا عليهم السلام هو التشيع، والظاهر من الشيعة حسن العقيدة، وهو المطلوب.

يُراجع "عدة الرجال" للسيد محسن الأعراجي، الجزء الأول، صفحة 103.

وفيه إن هذا الدليل يستظهر، وهذا ظاهرٌ خلاف نص أئمة الرجال، فمن المعلوم من كتب الرجاليين فساد اعتقاد الكثير من الرواة، وقد طفحت به الكتب الرجالية وصرح به أعلام المذهب، ويكفي ما ذكره شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 هجرية من أن كثيراً من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة، وإن كانت كتبهم معتمدة.

يُراجع "الفهرست" للشيخ الطوسي، صفـحة أربعة، المقدمة.

فهذا نص صريح فيه فساد مذهب الكثير من الرواة، بل من الأعظم كبني فضال: أحمد بن الحسن بن فضال، وأبناؤه أحمد ومحمد وعلي وغيرهم، هؤلاء فطحية، وابن عقدة زيدي، وعندنا العقيقي وابن نمير وغير ذلك، فالدليل الثاني ليس بتام.

فمن قال أن الظاهر من الرواة عن الأئمة أنهم شيعة، فهذا السكوني الذي أكثر رواياته عن الإمام عليه السلام، وهو عامي المذهب فالكثير من العامة كحفص بن غياث، والسكوني، وقد صرح الشيخ الطوسي في كتاب العدة في الأصول من أن الطائفة عملت بروايات بعض فاسدي المذهب، كحفص بن زياد والسكوني إلى آخره، والطائفة أجمعت على قبول رواياته، فهذا يدل على أن الكثير من روايات الأئمة لم يكونوا شيعة إمامية، بل كانوا شيعة إمامية، وشيعة غير إمامية، والعامة أيضاً.

الدليل الثالث: إن ديدن الشيخ النجاشي رحمه الله وغيره من أئمة الرجال النص على فساد المذهب في الرواة، فحيث لم ينصوا، كان ذلك شهادة منهم على حسن العقيدة، وهذا الكلام قد اشتهر بين المتأخرين حتى صار عند كثير منهم من المسلمات، ومن غير نكير، إلا أنه ليس بتام.

يُراجع "استقصاء الاعتبار في شرح الاستقصاء" الجزء الأول، صفحة 111، "الفوائد الرجالية" للوحيد البهبهاني، صفحة 18، و"عدة الرجال" للسيد محسن الأعراجي، الجزء الأول، صفحة 115، و"الرواشح السماوية في الأحاديث الإمامية" للسيد محمد باقر الميرداماد، صفحة 68، و"منتهى المقال في أحوال الرجال" للشيخ محمد بن إسماعيل الحائري، الجزء الأول، صفحة 43.

والدليل الثالث ليس بتام، إذ لا يصلح ما ذكره عن النجاشي شاهداً للمدعى، إذ أن الشيخ النجاشي قد عد رجاله وهو "الفهرست" لتعداد أسماء مصنفي الشيعة، وهذا يعلم من دباجة الجزء الثاني من كتاب رجال النجاشي إذ عنونه "الجزء الثاني من فهرست أسماء مصنفي الشيعة"، فيعلم أن الأصل في الراوي الذي يورده الشيخ النجاشي أنه شيعي، وإذا لم يكن شيعياً أو كان فاسد المذهب نُصّ عليه، فيعلم أن الراوي شيعي لا من لفظ ثقة، بل لأن فهرست النجاشي هو عد لإحصاء أسماء مصنفي الشيعة، وأين هذا من استبطان لفظة "ثقة" لقيد الشيعة الإمامية؟!

فالدليل الثالث ليس بتام.

والصحيح أن لفظ "ثقة" تستبطن القيد الأول والثاني، وهما: أن الراوي صادق اللهجة ولا يتعمد الكذب وعنده ضبط، ولا يستبطن القيد الثالث وهو العدالة، ولا يستبطن القيد الرابع وهو الإمامية.

ولنعم ما أفاد الحر العاملي رحمه الله في خاتمة الوسائل إذ قال ما نصه: "دعوى بعض المتأخرين أن الثقة بمعنى العدل الضابط ممنوعة، وهو مطالب بدليلها"، ثم قال: "وإنما المراد بالثقة من يُوثق بخبره ويؤمن من الكذب عادة، والتتبع شاهد به، وقد صرح بذلك جماعة من المتقدمين والمتأخرين".

"وسائل الشيعة" للشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، الجزء الثلاثين، خاتمة صفحة مائتين وستين.

فأما المراد بالمتقدمين فكثير، وأبرزهم شيخ الطائفة الطوسي. وما أفاده في العدة والفهرست شاهد على أن قيد الثقة لا يستبطن العدالة والإمامية، ولكن ما هو مراد الحر العاملي من المتأخرين؟

إذ اشترط بين بعض المتأخرين اشتراط العدالة كالشهيد الثاني، وابنه الشيخ حسن صاحب المعالم، وصاحب المدارك وغيرهم.

لعل مراد صاحب الوسائل من قوله: "جماعة من المتأخرين" ما ذكره الشهيد الثاني رحمه الله حيث تعرض لرواية وسمها العلامة الحلي بالصحة، والعلامة الحلي ممن نسب إليه اشتراط العدالة، فإذا وسم رواية بالصحة فهذا يعني أن جميع روايتها ثقات عدول الإمامية، لكن في سندها معاوية بن حكيم، وهو فطحي، فقال العلامة الحلي رحمه الله ما نصه معلقاً على معاوية بن حكيم: "وهو وإن كان ثقة جليلاً، ذكره النجاشي، إلا أن الكشي قال إنه فطحي" هنا المفروض صيرورة تعارض، إذا النجاشي قال "ثقة" يعني إمامي والكشي قال "فطحي" يعني ليس بعدل وليس بإمامي، والشهيد الثاني ممن يشترط العدالة، لكن لاحظ تعليق الشهيد الثاني.

علق الشهيد الثاني على هذه العبارة للعلامة الحلي قائلاً: "والحق أنه لا منافاة بين القولين، فإن الحكم بكونه ثقةً جليلاً يروي عن الرضا عليه السلام، لا ينافي كونه فطحياً، لأن الفطحية يزيدون في الأئمة عبد الله بن جعفر الصادق، ويجعلون الإمامة بعده لأخيه موسى، ثم للرضا عليه السلام، ولا ينافي ذلك روايته عنه.

وأما كونه ثقة جليلاً الشاهد هنا، فظاهر مجامعته للفطحيه، لأن كثيراً منهم بهذا الوصف، سيما بني فضال، فعلى هذا من فرد به الكشي من الحكم بكونه فطحياً، لا معارض له حتى يطلب الترجيح.

"مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام"، شهيد الثاني زين الدين الجبلي، الجزء السابع، صفحة 59.

فظاهر عبارة الشهيد الثاني في المسالك مفادها إن لفظ "ثقة" لا يستبطن الإمامية، وأنه يجتمع مع الفطحية وفساد العقيدة كما اجتمع في بني فضال.

وهذا الكلام من الشهيد الثاني في المسالك يتنافى مع ما تبناه في الرعاية في علم الدراية، إذ ذكر أن لفظ "الثقة" يستبطن الإمامية، وبالتالي بناءً على مبنى الشهيد الثاني في الرعاية، لا بد من الالتزام بالمعارضة؛ لأن توثيق النجاشي للرجل شهادة منه بإمامية الرجل، وهذا يتعارض مع شهادة الكشي بالفطحية، فيقع التنافي.

فبناءً على مسلك الشهيد الثاني في الدراية، لا بد من وقوع التعارض والتنافي، بينما على مسلك المشهور من عدم استبطان لفظ الثقة للإمامية، لا توجد أي معارضة.

ومن الغريب ما ذكره الوحيد البهبهاني في فوائده الرجالية صفحة ثمانية، وتبعه عليه جماعة بعد أن اختاروا أن إطلاق التوثيق يدل على الإمامية، فقالوا: لو وثق النجاشي مثلاً وسكت عن المذهب، ونص غيره على واقفيته أو فطحيته، فلا تعارض لحمل الظاهر على النص.

فقالوا هكذا: ما ذكره الرجاليون من فطحية أو واقفية الراوي نص في فساد مذهبه، وما ذكره النجاشي من أنه ثقة ظاهرٌ في إماميته، فإذا تعارض النص مع الظاهر، حمل الظاهر على النص، فنحمل الوثاقة على أن هذا الراوي فطحي أو واقفي، وليس بإمامي، فنرفع اليد عن ظهور لفظ الثقة بالإمامية تمسّكاً بالنص الصريح في فطحية الراوي.

وسر الغرابة إن حمل الظاهر على النص إذا صدر كلا الكلامين أو عدة كلمات من متكلم واحد وشخص فارد، وهذا هو المحقق في علم أصول الفقه.

ولكن إذا وقع ظاهر من متكلم ونص من متكلم آخر، فهنا لا يحمل الظاهر على النص، هنا نعمل قواعد التعارض والترجيح.

ولكن على مبنانا من أن لفظ "الثقة" لا يستبطن العدالة، ولا يستبطن الإمامية، فلا يوجد تعارض بين نص النجاشي على أن الراوي ثقة وبين نص غيره على فساد مذهبه.

ولعل هذا المطلب مرتكز في أذهان حتى بعض المتأخرين، والشاهد على ذلك: أنك لو تتبعت الكثير من كلمات المتقدمين كالشيخ الطوسي والنجاشي، تجد أن هذه الحقيقة واضحة لا غبار عليها من أن النص على وثاقة الرجل لا تعني أن هذا الرجل عدل إمامي.

وبعد أن أثبتنا أن مصطلح "ثقة" لا يدل على العدالة والإمامية، نجد أن بعض المعاصرين، كالشيخ محمد آصف المحسني رحمه الله، في كتابه "بحوث في علم الرجال" صفحة 202، بعد أن اختار ما ذهبنا إليه، ذكر أنه لا سبيل إلى الحكم بصحة أكثر الروايات المعدودة عندهم من الصحاح، ولا يمكن الحكم عليها بالصحة الاصطلاحية؛ لأن لفظ "ثقة" لا يستبطن العدالة والإمامية.

وهذا غريب عجيب، فإننا نسلم أن لفظ "ثقة" لا يستبطن سلامة العقيدة، ولا يستبطن كون الراوي عدلاً إمامياً، لكن يمكن استعلام حال الراوي عبر تلمس القرائن الكثيرة، ومن أهمها نص الرجاليين.

فأحيانًا يقول النجاشي: سليم العقيدة، وأحيانًا يقول: من أصحابنا، ثقة من أصحابنا يعني الشيخ إمامي، ولعل الذين لم تُعلم عقيدتهم نزر يسير بالقياس إلى الرواية الذين علمت صحة عقيدتهم.

وفي الختام نشير إلى هذه النكتة، وهي إن ديدن المتقدمين كان على الغمز في الرواة الثقات الذين أكثروا من الرواية عن الضعفاء.

فإذا ذكروا راوٍ ثقة وقد روا كثيراً عن الضعفاء، غمزوه. فربما يمكن استفادة عكس ذلك، وهو أنهم إذا ذكروا رجل وقد نصوا على وثاقته وأطلقوا ولم يغمزوا فيه بأنه يروي عن الضعفاء ولم ينصوا على ذلك، فقد يقال إن هذا يكشف عن أن هذا الراوي الثقة لا يكثر من الرواية عن الضعفاء.

وقد نبه على هذه القرينة الشيخ محمد بن الحسن العاملي في "استقصاء الاعتبار في شرح الاستبصار، الجزء الأول، صفحة 48.

وهذا بحث مهم.

هذا تمام الكلام في المصطلح الأول "ثقة".

المصطلح الثاني "ثقة ثقة" يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الكرام

00:00

11

2024
| ديسمبر
جلسات أخرى من هذه الدورة 33 الجلسة

11

ديسمبر | 2024
  • الكتاب: بحوث في علم الرجال
  • الجزء

    -

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
33 الجلسة