خارج الفقه (الجهاد)
شیخ الدقاق

62 - القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم

خارج الفقه (الجهاد)

  • الكتاب: كتاب الجهاد
  • الجزء

    01

  • الصفحة  

    -

21

2025 | يناير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم

القتال في الأشهر الحُرم وفي الحرم، هنا بحثان:

البحث الأول: القتال في الأشهر الحُرم.

البحث الثاني: القتال في الحرم المكي.

أما البحث الأول وهو القتال في الأشهر الحرم، فهي أربعة أشهر: رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وقد أجمع الفقهاء على لزوم مراعاة حرمة الأشهر الحرم وعدم جواز القتال فيها بالنسبة إلى من يرى من الكفار حرمة القتال فيها أولاً، ويلتزم بالحرامة عملاً ثانياً.

فمن كان من الكفار كذلك أي يعتقد بالحرامة ويلتزم بها عملياً، حرم على المسلمين أن يقاتلوا في الأشهر الحرم.

وأما من يرى حرمتها نظراً واعتقاداً لكنه لم يلتزم بها عملياً، بل انتهك حرمة الأشهر الحرم وبدأ بقتال المسلمين في الأشهر الحرم، فعلى المسلمين قتاله فيها.

وأما الكافر الذي لا يرى حرمةً أصلاً للأشهر الحرم، فحينئذٍ يجوز للمسلمين أن يبدأوه بالقتال فيها.

ونتطرق إلى أمرين:

الأول: كلمات الفقهاء.

الثاني: أدلة المسألة.

الأمر الأول: كلمات الفقهاء، والمهم منها كلمات القدماء، قال القاضي ابن البراج الطرابلسي في المهذب: "وقاتل المشركين جائز في جميع الأوقات إلا في الأشهر الحرم لمن كان يرى منهم لها حرمة، فإن من يرى ذلك منهم لا يجوز قتاله فيها إلا أن يبتدأ هو فيها بالقتال، فإذا ابتدأ بذلك جاز قتاله فيها، وإن لم يبتدئ لم يجوز قتاله حتى ينقضي".

المهذب لابن البراج، الجزء الأول، صفحة 303.

وقال المحقق الحلي في شرائع الإسلام: "يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلا أن يبدأ الخصم أو يكون ممن لا يرى للأشهر حرمة.، وظاهر تعبيره بالغزو إرادة الجهاد الابتدائي.

وقال المحقق الحلي في المختصر النافع: "يقاتل في الأشهر الحرم من لا يرى لها حرمة ويكف عن من يرى حرمتها"، المختصر النافع، صفحة 100.

ولابد من تقييد قوله "ويكف عن من يرى حرمتها" بما إذا تقيد العدو بهذه الحرامة فلم يبدأ المسلمين بالقتال فيها.

وقال ابن إدريس الحلي في السرائر: "ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان وفي أي شهر كان إلا الأشهر الحرم، فإن من يرى منهم خاصة لهذه الأشهر حرمةً لا يبتدئون فيها بالقتال، فإن بدأوا بقتال المسلمين جاز حينئذٍ قتالهم، وإن لم يبتدئوا أمسك عنهم إلى انقضاء هذه الأشهر، فأما غيرهم من سائر أصناف الكفاة، فإنهم يبتدئون فيها بالقتال على كل حال..

السرائر، كتاب الجهاد، الجزء الثاني، صفحة 8.

هذا تمام الكلام في الأمر الأول كلمات الفقهاء.

الأمر الثاني: دليل الحكم، هو استدلال على هذا الحكم بالكتاب والسنة. أولاً: القرآن الكريم، وقد تمسك بثلاث آيات:

الآية الأولى قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" سورة البقرة، الآية 217 أي ذنبٌ عظيم وإثمٌ كبير.

الآية الثانية قوله تعالى: "فَإِذَا سَلَخَ الشُّهُورُ الحرام فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ" سورة التوبة، الآية 5، وهذه الآية تدل بمفهوم الشرط على أنه قبل انسلاخ الأشهر الحرم لا يجوز قتلهم، فرعت قالوا: "فَإِذَا سَلَخَ الأشهر الحرم فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ"، فلا يجوز قتلهم في الأشهر الحرم.

الآية الثالثة قوله تعالى: "الشَّهْرُ الحرام بِالشَّهْرِ الحرام وَالحراماتُ قِصَاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" سورة البقرة، الآية 194.

فالمقابل في قوله "الشَّهْرُ الحرام بِالشَّهْرِ الحرام"، أي بين التزامين بالحرامات، أي التزام المسلمين بحرمة الشهر الحرام في مقابل التزام الكفار بحرمة الشهر الحرام، فمتى ما كان الالتزام بحرمة الشهر قائماً من جانب الكفار، كان لزاماً على المسلمين الالتزام به والوفاء بذلك، فإذا اختل هذا الالتزام، ولم يلتزم الكفار بحرمة الشهر الحرام، فالمسلمون في حل من ذلك.

فالآية الأخيرة تبين الحكم في حرمة هذه الأشهر وأنها متبادلة، فمن يلتزم بها يلتزم له بها، ومن يهتك هذه الحرامة تهتك الحرامة بالنسبة إليه، ففي فترة هتكه لحرمة الشهر الحرام واعتدائه لا أمان له.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالقرآن الكريم.

ثانياً: السنة المطهرة، استدل المشهور على الحكم بمضمرة العلاء بن الفضيل، قال: "سألته عن المشركين، أيبتديهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ فقال: إذا كان المشركون يبتدئونهم باستحلاله، ثم رأى المسلمون أنهم يظهرون عليهم فيه، وذلك قول الله عز وجل: "الشَّهْرُ الحرام بِالشَّهْرِ الحرام وَالحراماتُ قِصَاصٌ"، والروم في هذا بمنزلة المشركين لأنهم لم يعرفوا للشهر الحرام حرمة ولا حقاً، فهم يبدؤون بالقتال فيه. وكان المشركون يرون له حقاً وحرمة، فاستحلوه فاستحل منهم، وأهل البغي يبتدئون بالقتال".

وسائل الشيعة، كتاب الجهاد، باب جهاد العدو وما يناسبه، الباب 22، الحديث الأول.

سند الرواية رواها الشيخ الطوسي في التهذيب بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن العلاء بن الفضل، والسند ضعيف بمحمد بن سنان، كما أن المتن فيه اغتراب وتشويش، ولكن لب المطلب واضح في الرواية، وهي أن الروم كالمشركين استحلوا حرمة الأشهر الحرم، فلذلك يجوز قتالهم.

[تفصيل في الحكم لأبي الصلاح الحلبي]

يظهر من كلام أبي الصلاح الحلبي في الكافي التفصيل بين مشركي العرب وغيرهم، فالحكم بحرمة القتال في الأشهر الحرم ثابت لمشركي العرب وغير ثابت لغيرهم من المشركين والكتّابيين.

قال أبو الصلاح الحلبي ما نصه: "ويجوز الابتداء بقتال الكتابيين والمرتدين والمتأولين ومن خرج إلى دار الإسلام من ضروب الكفاة لكيد أهلها في الأشهر الحرم، ولا يجوز الابتداء فيها بقتال مشركي العرب، فإن بدأوا بالقتال فيها وجب قتالهم".

الكافي لأبي الصلاح الحلبي، صفحة 257.

قد يقال: لعل منشأ التفصيل أن الدليل القرآني وارد في خصوص مشركي العرب، فيقيد إطلاق الآيات بموردها الذي هو مشركوا مكة بالعرب.

لكن هذا الكلام ليس بصحيح، فمن يتأمل في كلام الحلبي يظهر له جلياً أنه لا يقول بهذا التفصيل، بل هو ناظر إلى صورة العدوان وعدم العدوان، فبالنسبة إلى قتال مشركي مكة قال: لا يجوز الابتداء في الأشهر الحرم بقتال مشركي العرب، فإن بدأوا بالقتال فيها وجب قتالهم، وهذا واضح.

وأما بالنسبة إلى البقية، فهو ناظر إلى فرض تقدم عدوانهم وابتدائهم بالقتال وكيدهم، لاحظ عبارة قال: "ويجوز الابتداء بقتال الكتابيين والمرتدين والمتأولين ومن خرج إلى دار الإسلام من ضروب الكفار لكيدي أهلها" اللام للسبب يعني بسبب كيد أهلها بالأشهر الحرم، إذاً، هم الذين بدأوا وكادوا، فلا يوجد تفصيل، فكلام أبي الصلاح الحلبي موافق للمشهور.

[نسخ الحكم]

تبقى دعوة أخيرة، وهي دعوة نسخ الحكم، بين فقهاء المسلمين، خلاف في كون هذا الحكم من الأحكام الثابتة وأنه منسوخ. والمشهور بين فقهاء الشيعة عدم وقوع النسخ إلا في موردين، وفي هذا المورد لم يلتزم ولم يذكر دعوة النسخ إلا الشيخ الطوسي في المبسوط حيث ذهب إلى أن النسخ بآية: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلِّه" واستشهد على النسخ بأن النبي صلى الله عليه وآله قاتل قبيلة هوازن في شوال، وبعث خالد بن الوليد إلى الطائف في ذي القعدة.

المبسوط للشيخ الطوسي، الجزء الثاني، صفحة 3.

كما حكى الشهيد الثاني في المسال الخاصة قولة بنسخه بقوله تعالى: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم..

وهذا النسخ مذهب فريق من فقهاء العامة، لكن دعوى النسخ ليست تامة لأمور:

أولاً لا أساس لوجود النسخ في أي من آيات القرآن، ولم يلتزم الشيعة الإمامية بدعوى النسخ على المشهور بينهم إلا في موردين معلومين: الأول: آية النجوى، والمورد الثاني: آية حبس الزانيات حتى الموت، ولا وجود للنسخ على الإطلاق في أي من آيات الجهاد بالخصوص، لم تنسخ أي آية من آيات الجهاد.

ثانياً لا وجه لكون الآيتين اللتين ذكرهما الشيخ الطوسي والشهيد الثاني ناسختين.

أما قوله تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ"، ففيها إطلاق أحوالي وزمانية، بل وإطلاق مكاني، فتكون آيات الأشهر الحرم مقيدة لإطلاق هذه الآيات، يعني يوجد فيها تقييد أزماني، نحمل المطلق على المقيد، آيات الأشهر الحرم مقيدة، وهذه الآيات مطلقة.

أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، فغايتها إن صالحت للنسخ وهي غير صالحة للنسخ تقييد المكان، ونسخ الحكم الثابت بالنسبة إلى خصوص البيت الحرام، لا أكثر، نظراً لأن لفظة "حيث" ليست من أدوات الزمان بل تدل على المكان. فإذا لاحظنا سياق هيئة الجملة "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، يعني أينما وجدتموهم وليس في أي وقت وجدتموهم.

والآيتان المتقدمتان في الاستدلال على الحكم، وهما قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ"، وقوله تعالى: "الشَّهْرُ الحرام بِالشَّهْرِ الحرام وَالحراماتُ قِصَاصٌ"، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (سورة البقرة، الآية 217 و194) مقيّدتان لإطلاق الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا، ولا يصلح العام والمطلق أن يكون ناسخين للمقيّد والمخصص، فالمقيّد والمخصص قرينة على المراد من العام والمطلق، هكذا ذكر في علم الأصول، ومع إمكان الجمع العرفي لا يصار إلى النسخ، إذ إن الجمع أولى من الطرح.

وثالثاً لم نعرف غرض الشيخ الطوسي من ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله حارب هوازن في شوال، فإن شهر شوال ليس من الأشهر الحرم، كما أن إرسال خالد بن الوليد إلى الطائف في ذي القعدة كان سببه أن ثقيف لم ترعى حرمة الأشهر الحرم فسقطت حرمة قتالهم في الأشهر الحرم.

البحث الثاني: القتال في الحرام

القتال في الحرم المكي حرام، وهو المعروف بين الفقهاء للنهي القرآني الوارد في قوله تعالى: "وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الحرام حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ"، ولكن جماعة من الفقهاء ادعوا نسخها، منهم الشيخ الطوسي في المبسوط، قال مع نصه: "وأما المكان فإنه كان مطلقًا في سائر الأماكن إلا الحرم، فإنه كان لا يجوز القتال فيه إلا أن يبدأوا بالقتال"، إلى أن يقول: "ثم نسخ ذلك وأجاز القتال في سائر الأوقات وجميع الأماكن لقوله تعالى: "وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ". (المبسوط، الجزء الثاني، صفحة 3).

وقال العلامة في القواعد والتحرير، والمحقق الحلي في الشرائع ما نصه: "يجوز القتال في الحرام وقد كان محرماً فنسخ".

والشهيد الثاني في المسالك قال: "نسخه قوله تعالى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ". وهذا مذهب جماعة من الفقهاء من الشيعة والسنة.

إذا تراجعون التفاصيل القديمة والكتب الفقهية القديمة، دعاوى النسخ كثيرة الآن، عند المتأخرين والمعاصرين، صار واضحاً أن دعوى النسخ، بعضهم يقول في خصوص آية النجوى وبعضهم يقول آية النجوى والآية بالنسبة إلى الزانيات.

والصحيح: خلاف ما ذهبوا إليه، من أنه لا نسخ في آيات الجهاد.

وقد ذكر سيد أساتذتنا السيد الخوئي في كتابه البيان ما هو الحق في هذه المسألة، فقال ما نصه: "والحق أن الآية محكمة وليست منسوخة، فإن ناسخ الآية إن كان هو قوله تعالى: "فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ"، فهذا القول ظاهر البطلان، لأن الآية الأولى خاصة، والخاص يكون قرينةً على بيان المراد من العام إن علم يتقدمه عليه في الورود. فكيف إذا لم يعلم ذلك؟!

وعلى هذا، فيختص قتال المشركين بغير الحرام إلا أن يكونوا هم المعتدين بالقتال فيه، فيجوز قتالهم فيه حينئذٍ.

وإن استندوا في نسخ الآية إلى الرواية القائلة إن النبي صلى الله عليه وآله أمر بقتل ابن خَطل، وقد كان متعلقاً بستار الكعبة، فهو باطل قطعاً.

أولاً لأنه خبر واحد لا يثبت به النسخ في القرآن المتواتر، فكيف ينسخ بخبر الواحد الظني؟!

ثانياً لأنه لا دلالة له على النسخ، فإنهم رووا في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله قوله: "إنها لم تحل لأحد قبلي وإنما حلت لي ساعة من نهارها"، وصريح هذه الرواية أن ذلك من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله.

هذه قضية في واقعة ومن خصوصيات النبي، فلا وجه للقول بنسخ الآية إلا المتابعة لبعض الفقهاء، والآية حجة عليهم.

(البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي، صفحة 303 و304).

هذا تمام الكلام في هذا البحث، واتضح حرمة القتال في الأشهر الحرم: رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، وفي الحرم المكي، إلا إذا انتهك المشركون حرمة القتال فيهما، فيجوز القتال فيهما، والله العالم.

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

00:00

21

2025
| يناير
جلسات أخرى من هذه الدورة 62 الجلسة

21

يناير | 2025
  • الكتاب: كتاب الجهاد
  • الجزء

    01

  • -

    الصفحة
جلسات أخرى من هذه الدورة
62 الجلسة