بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم

تفسير قوله تعالى: "خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، هذه هي الآية السابعة من سورة البقرة، وهي علة للآية السابقة عليها، وهي الآية السادسة، إذ يقول تعالى: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون"، فالآية السادسة مفادها: إن الذين كفروا إذا خوفتهم أو لم تخوفهم فهم لا يؤمنون ولا يعتقدون.

والسبب في عدم إيمانهم والسبب في عدم خوفهم هو أن الله ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وأن هناك غشاوة على أبصارهم، وعاقبتهم ونتيجة ذلك أن لهم عذاب عظيم.

ولنفسر مفردات الآية بشكل إجمالي ونذكر بعض النكات بشكل عابر، ثم بعد ذلك نشرع في التفسير التفصيلي.

أما الإجمال، فقال تعالى: "ختم الله على قلوبهم"، الختم يشير إلى الانتهاء. تقول: "ختمت الرسالة"، أي أنهيتها، وتقول: "محمد خاتم الأنبياء والمرسلين"، أي اكتملت بعثة الأنبياء والمرسلين وانتهت، "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم"، أي انتهى أمرهم فلا فائدة فيهم.

وهذا الختم ختم جزائي وعقابي وليس ختمًا ابتدائيًا، ويشير إلى ذلك قوله تعالى "نسوا الله فأنساهم أنفسهم"، أي أنهم في البداية هم الذين نسوا الله، فكانت عاقبة ونتيجة وجزاء ذلك أن الله أنساهم أنفسهم.

قال تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"، أي إن منشأ الرين هو نفس الفعل المباشر للعبد وهو كسبه، ثم يأتي الرين العقابي والجزائي من قبل الله.

والملاحظ أن القرآن الكريم أشار بالفعل الماضي فقال: "ختم الله"، ولم يقل "يختم الله" أو "سيختم"، والسر في ذلك: مضي واستحكام الختم والانتهاء، كما أن الآية عبرت بحرف الاستعلاء "على" وكررتها ثلاث مرات لتأكيد الاستيعاب والاستحكام، أي أن الختم والانتهاء قد استوعب تمام القلوب وتمام السمع وتمام الأبصار.

وأسند الله تبارك وتعالى الختم إلى نفسه فقال: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم"، لكن بالنسبة إلى الغشاوة نسب الغشاوة لهم فقال: "وعلى أبصارهم غشاوة"، وفي آية أخرى نسب الغشاوة إلى نفسه، ولا فرق في البين فإذا نسبت الغشاوة لهم أنفسهم فهذا إشارة إلى الفعل المباشر والفعل الابتدائي، وإذا نسبت الغشاوة إلى الله فهذا إشارة إلى الفعل العقابي والإجراء الجزائي.

ثم قال: "ولهم عذاب عظيم"، واللام تفيد الاختصاص والعاقبة، أي اختصوا بالعذاب العظيم، والعذاب من التعذيب أي الإيلام، وعظيم يقابل حقير، أي الإيلام الشديد.

ويلاحظ أن الآية الكريمة ذكرت القلوب والأبصار بلفظ الجمع لكنها ذكرت السمع بلفظ المفرد، فقالت: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم" ولم تقل: "وعلى أسماعهم".

ومن هنا بحث المفسرون في نكات، فما هو السمع في جمع القلوب والأبصار، وما هو السمع في إفراد السمع؟

وقبل بيان ذلك، لابد من السؤال: ما هو المراد بالقلوب والسمع والأبصار؟ فهل المراد المادي منها؟ فالإنسان له قلب مادي صنوبري، وله عينان يبصر بهما، وله أذنان يسمع بهما، فهل المراد هذه الأجزاء المادية، أو المراد الأجزاء المعنوية؟

الجواب: ليس المراد الأجزاء المادية، بل المراد الأمور المعنوية.

والمراد بالقلب المعنوي هو القوة المدركة والمفكرة، ومن أدوات القوة المدركة التي هي القلب: السمع والبصر، وليس المراد بالسمع والبصر السمع المادي والبصر المادي، بل المراد الأمر المعنوي الذي قد يساعد على التعقل والإدراك والتفكير.

قال تعالى: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها إنهم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلًا".

ومن الواضح أن لديهم قلب صنوبري وأذن مادية وعيون مادية، لكن القوة المعنوية التي توجب الإدراك في القلب والتفكير غير موجودة، يعني عند أذن يسمع الصوت لكن لا يتأثر به، لديه عين مادية ويرى الصورة لكن لا تؤثر فيه، فالمراد القوة المؤثرة.

وبعبارة أخرى: هؤلاء أصبحوا كالجماد، لا حراك لقلوبهم ولا لسمعهم ولا لأبصارهم، إذ أن هناك حجابًا خاصًا حصل لقلوبهم وسماعهم، وهناك غشاء وحجاب خاص على أعينهم.

الآن نقرأ هذا عرض موجز لتفسير الآية، وقلنا إن القرآن الكريم في سورة البقرة بعد الحروف المقطعة، أول أربع آيات في صفات المؤمنين، الصنف الأول، ثم آيتين السادسة والسابعة في وصف الصنف الثاني وهم الكفار، ثم ثلاثة عشر آية في وصف الصنف الثالث وهم المنافقون.

الآن نقرأ مفردات الآية وتفسير مفردات الآية بشكل مفصل.

الختم هو في مقابل الفتح، افتداء الشيء وافتتاحه، وهو بمعنى إكمال الشيء أو بلوغ أمره، والسر في استخدام كلمة الفتح الإشارة إلى الانتهاء والإقفاء.

لفظ السمع جاء مفردًا ولم يأت بصورة الجمع، وقد ذكرت عدة وجوه ليست إلا تأملات.

يراجع تفسير المنار لمحمد رشيد رضا، الجزء الأول، صفحة مئة وأربعة وأربعين.

ثم بعضهم قال في السامع: الناس يتساوون، كلهم يسمعون الصوت، فقال: فعبر بالمفرد بخلاف القلوب والأبصار، فإنها تتفاوت.

وهذا غير تام، لأن أيضًا الناس تتفاوت في السمع، بعضهم سامعهم ضعيف وبعضهم سامعهم قوي وهكذا.

غشاوة يراد بها الساتر، والساتر إما مادي، أو إما معنوي، ويراد به ما يستولي على الشيء فيحيط به تمامًا.

القرآن الكريم استخدم هذه المفردة، قال: "يغشاه موج"، "غاشية من عذاب الله"، يعني ساتر.

قوله تعالى: "لهم"، لها معنيان هنا: المعنى الأول: الربح، وتستخدم في مقابل "على" بمعنى الخسارة، قال تعالى: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها"، فالمعنى الأول: اللام تفيد الربح في مقابل الخسارة، والمعنى الثاني: تفيد الاختصاص، قال تعالى: "ليس للإنسان إلا ما سعى"، يعني لا يختص بالإنسان إلا ما سعى إليه.

ومن الواضح أن الآية هنا بمعنى الاختصاص، هي من قبيل: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها" قال تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".

ثم ننطلق إلى التعابير المشابهة للفظ الختم.

القرآن الكريم عبر عن عدم قبول الكفار والمعاندين للهدايا وانسداد قلوبهم بعدة تعبيرات مثل الطابع قال تعالى: "أولئك الذين طبع الله على قلوبهم"، والصرف: "صرف الله قلوبهم"، والكناء "أنا جعلنا على قلوبهم أكنة"، والغلاف: "وقالوا قلوبنا غلف"، والرين: "كلا بل ران على قلوبهم"، والقفل: "أأعلى قلوبهم أقفالها"، والتقليب: "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم"، والقساوة: "ثم قست قلوبكم"، والمرض "في قلوبهم مرض".

وجميع هذه التعابير تشير إلى عدم قبول الحق، وعدم قبول الحق يرجع إلى سببين رئيسيين:

الأول: العناد وعدم الاعتقاد.

الثاني: الذنوب والمساوئ الخلقية.

أكثر الناس الذين ينحرفون عن الجادة إما السبب الأول وهو هوى الناس وعدم الاعتقاد والعناد، وأما السبب الثاني فهو الذنوب، وقد يستصغر العبد الذنب الصغير فتتراكم عليه الذنوب الصغيرة، فتصبح كبيرة، فينكر وجود الله.

كثير من الذين انحرفوا وزل بهم الطريق لم يلتفتوا إلى ذنوب صغيرة وعثرات حقيرة في دربهم، فتراكمت عليهم إلى أن استحكمت فضلوا الطريق، لذلك تقول في دعاء الغريق الذي تستحب المداومة عليه في زمن الغفلة: "يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك".

القلب قلبان: قلب مادي جسماني، وقلب معنوي روحاني. والعلاقة بين سلامتهما والنسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص من وجه، فهما يتفقان في صاحب القلب السليم معنويًا، والقلب الصحيح ماديًا، كما لو كان رياضياً يمارس الرياضة المادية ويمارس الرياضة المعنوية، فهو من أهل التعبد والتهجد، فهذا حاز كلا الأمرين.

وقد يفترقان، فلا يكون هذا الرجل صاحب قلب سليم، كما لو كان قلبه مظلماً بالذنوب، هو أيضًا قد لا يكون صاحب قلب صحيح، كما لو أصيب بمرض القلب واحتاج إلى عملية فتح قلب، وقد يفترق أحدهما عن الآخر، كما لو كان الرجل رياضياً ومن أهل الرياضة المادية لكنه من أهل المعاصي والقلوب المظلمة. والعكس بالعكس، قد يكون الرجل صاحب قلب مريض لكنه صحيح من جهة أخرى، أي صاحب قلب حي وطاهر لكنه يحتاج إلى عملية فتح قلب.

رحمة الله العارف الكبير آية الله الشيخ يحيى الأنصاري كان في همدان، وكان فقيهاً ضد العرفاء، وسمع أن مجموعة من المتصوفة والعرفاء قد اجتمعوا في مقبرة همدان، فذهب لكي يعظهم، ذهب إليهم فوجدهم في حلقة الدرس فسكت الأستاذ وأخذ آية الله الشيخ يحيى الأنصاري ينصحهم مدة ساعة كاملة، والأستاذ ساكت والطلبة ساكتون، وكان يعظهم لوجه الله ويرى أن هذا انحراف.

وبعد أن أكمل موعظته، نظر إليه الأستاذ العالي بعين الحقيقة والقهر نظرًا مطولًا، وإذا بالشيخ يحيى الأنصاري يحدث لهم انقلابًا ويصير من أهل المعرفة والحقيقة والطريقة، وقد أصيب بداء العشق والحب. ومرض، فأخذه ولده إلى طبيب في طهران، فكشف علاقاته، فقال الطبيب لابنائه: هذا الرجل مصاب بداء العشق والحب، والغريب أن قلبه محترق.

فلما انصرفوا من الطبيب، قال الشيخ يحيى الأنصاري: هذا الطبيب حاذق قد شخص المرض، قد شخص أن القلب والعشق محترق، لكنه لم يشخص المعشوق، وقد كان عاشقًا لله، وظن الطبيب أنه عاشق لامرأة.

توفي ودفن في مدينة قبل مقدسة لعله في گلزار شهداء رضوان الله عليهم.

على كل حال، لم يكن في بالي أن أذكر قصته، لكن هذا آخر يوم في الدرس، فلا بأس.

على كل حال، الخلاصة أن الكفار محفوفون بحجابين: حجاب من أنفُسِهِم بمباشرة أعمالهم، وحجاب من الله عقابًا لهم على مباشرتهم لهذه الأعمال السيئة. والذي يؤثر في الإنسان أمره هو النفس والعناد، والثاني الذنوب.

شكوت إلى حكيم سوء حفظي، فأرشدني إلى ترك المعاصي، وقال بأن العلم نور، ونور الله لا يؤتى لعاصي.

ونختم بكلمات أمير البيان، أمير المؤمنين. جاء رجل إلى أمير المؤمنين فقال: "يا أمير المؤمنين، إني قد حرمت من أداء نافلة الليل"، فقال له أمير المؤمنين: "أنت رجل قد قيدتك ذنوبك"، انظروا إلى ماذا يفعل الذنب، قال تعالى: "ونقلب أفئدتهم" ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم.

نسأل الله عز وجل حسن العاقبة والخاتمة، ونستجير بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، تتمة الحديث تأتي، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين