بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

وجوه الفرق بين الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي

ذكر المرحوم الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه الله في كتابه "كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء" الجزء الرابع صفحة مائتين وسبعة وثمانين خمسة أقسام للجهاد، ومرجع الأقسام الأربعة الأولى إلى الجهاد الدفاعي، ومرجع القسم الخامس إلى الجهاد الابتدائي، ثم ذكر أربعة عشر وجهًا في الفرق بين الأقسام الأربعة الأولى، وهي أقسام الجهاد الدفاعي، وبين القسم الخامس، وهو الجهاد الابتدائي.

وحري بنا أن نتأمل في هذه الوجوه الأربعة عشر، فقد كان الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري يعتني بكلمات كاشف الغطاء، وغالبًا ما يعبر عنه ببعض الأساطين، بينما كان يعبر عن المرحوم الشيخ محمد حسن النجفي، صاحب "جواهر الكلام"، ببعض المعاصرين.

والشيخ جعفر كاشف الغطاء والشيخ صاحب الجواهر لعظمت كتابيهما لقبت عائلتهما باسم كتابيهما، فـ آل كاشف الغطاء نسبة إلى كتاب "كاشف الغطاء"، وآل الجواهري نسبة إلى كتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام".

وقد خرج الشيخ جعفر كاشف الغطاء لقتال الروس مع فتح علي شاه، وكتب رسالة في الجهاد لعلها آخر رسالة كتبها قبل وفاته بستة أشهر، واسمها "غاية المراد في بيان أحكام الجهاد" أو "حسام بتار في معرفة قتال الكفار".

ولا تزال هذه الرسالة مخطوطة، ونحن إن شاء الله نحاول أن نعتني بهذه الرسالة المخطوطة وبما ذكره الشيخ جعفر كاشف الغطاء في "كشف الغطاء"، وبما ذكره الشيخ الجواهري، الشيخ محمد حسن النجفي، في "جواهر الكلام"، إذ أنه أحاط بكلمات الأعلام وتتبعها على خير ما يرام، ولنذكر باختصار الأقسام الخمسة التي ذكرها صاحب "كشف الغطاء" لنرى أن الأقسام الأربعة الأوال إنما هي أقسام للجهاد الدفاعي.

القسم الأول: الجهاد لحفظ بيضة الإسلام إذا أراد الكفار المستحقون لغضب الجبار الهجوم على أراضي المسلمين وبلدانهم وقراهم، وقد استعدوا لذلك وجمعوا الجموع لأجله لتعلو كلمة الكفر وتهبط كلمة الإسلام، ويضربوا فيها بالنواقيس، ويبنون فيها البيع والكنائس، ويعلنوا فيها سائر شعائر الكفر.

ومن الواضح أن هذا جهاد دفاعي، إذ أنه لحفظ بيضة الإسلام ورد الكفار.

القسم الثاني: طبعا قال شيخ جعفر كاشف الغطاء إن الجهاد ينقسم، من جهة اختلاف متعلقاته، إلى أقسام خمسة في أساس التقسيم اختلاف المتعلقات.

القسم الثاني: الجهاد لدفع الملاعين عن التسلط على دماء المسلمين وأعراضهم بالتعرض بالزنا بنسائهم واللواط بأولادهم، ويجب ذلك على من غاب أو حضر مع عدم قيام الحاضرين به.

القسم الثالث: الجهاد لدفعهم عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة من الكفار فخيف من استيلائهم عليها.

القسم الرابع: الجهاد لدفعهم عن بلدان المسلمين وقراهم وأراضيهم وإخراجهم منها بعد التسلط عليها وإصلاح بيضة الإسلام بعد كسرها، والسعي في نجاة المسلمين من أيدي الكفرة الملاعين.

ومن الواضح أن هذه الأقسام الأربعة من الجهاد الدفاعي، إذ عبر بلفظ الدفع في الثاني والثالث والرابع، وأما الأول فمن الواضح أنه بمثابة الضربة الاستباقية، فإذا أراد الكفار الهجوم على أراضي المسلمين وثب لهم المسلمون لحفظ بيضة الإسلام، وهذا أيضا من الجهاد الدفاعي.

القسم الخامس: جهاد الكفر والتوجه إلى محالهم للرد إلى الإسلام والإذعان بما أتى به النبي الأمي المبعوث من عند الملك العلام عليه وآله أفضل الصلاة والسلام، ثم يقول: "وهذا المقام من خواص النبي والإمام والمنصوب الخاص منهما دون العام، ويختص به بعض الأحكام" لطيفة هذه السجية.

كما أنه أشار قبل ذلك إلى أن الجهاد الدفاعي عن بلدان المسلمين لحفظ بيضة الإسلام أفضل أنواع الجهاد، بل أفضل من الصلاة والصيام، فهو يأتي بعد الاعتقاد بالله، وإن كان للصلاة خصوصية.

ولنقرأ ما ذكره رحمه الله بعد ذكر القسم الرابع، وهو الجهاد لدفع الكفار عن بلدان المسلمين بعد تسلطهم عليها وإصلاح بيضة الإسلام بعد كسرها قال ما نصه: "وهذا القسم أفضل أقسام الجهاد وأعظم الوسائل إلى رب العباد، وأفضل من الجهاد لرد الكفار إلى الإسلام، أي الجهاد الابتدائي، كما كان في أيام النبي عليه وآله أفضل الصلاة والسلام" يعني كان جهادًا دفاعيًا.

"ومن قتل في تلك الأقسام"، يعني الأربعة، "يقف مع الشهداء يوم المحشر، والله هذا هو الشهيد الأكبر. فالسعيد من قتل بين الصفوف فإنه عند الله بمنزلة الشهداء المقتولين مع الحسين عليه السلام يوم الطفوف، قد زخرفت لهم الجنان وانتظرتهم الحور والولدان، وهم في القيامة أضياف سيد الإنس والجان".

ثم يقول هذا الكلام وقد كرره في رسالته الأخيرة قبل وفاته عندما خرج لقتال الروس، هذا الكلام تكرر في "كشف الغطاء" وفي "غاية المراد" رسالة أخيرة، قال ما نصه: "فمن علم بأنه يجب عليه أن يقبل مني الكلام ويأخذ عني الأحكام الواردة عن سيد الأنام، فليخرج سيفه من غمده ويرفع رمحه من بعده وينادي بأعلى صوته: أين غيرة الإسلام، أين الطالبون بثارات شريعة سيد الأنام، أين من باعوا أنفسهم بالجنان والحور والولدان، وفي رضا الرب الرؤوف الرحمن، أين عبيد سيد الأوصياء، أين الطالبون لأن يكونوا من شهداء كربلاء، أين الدافعون عن شريعة سيد الأمم، أين الذين روي في حقهم إن أكثر أنصار صاحب الأمر العجم..."، هذا حينما خرج مع العجل، خرج من العراق إلى إيران لقتال الروس رحمة الله.

ثم يقول رحمه الله، طبعا هو ذكر هذه الأقسام الخمسة للجهاد الابتدائي والدفاعي، ثم في الأخير ذكر ثلاثة أقسام للدفاع الشخصي، وهي الدفاع عن النفس والدفاع عن العرض والدفاع عن المال، قال: "هذه الأمور الثلاثة في الدفاع الشخصي لا يطلق عليها جهاد حقيقي، ومن قتل فيها يغسل ويكفن، بخلاف الأقسام الخمسة للجهاد الدفاعي والابتدائي، فقتلهم شهداء لا يغسلون ولا يكفى، ويطلق على هذا القتال جهاد حقيقي".

قال رحمه الله: "فكل من هذه الأقسام الخمسة مندرج في الجهاد على سبيل الحقيقة، ويجري على قتلاهم في المعركة حكم الشهيد في الدنيا والآخرة، فيثبت لهم في الآخرة مع خلوص النية ما أعده الله للشهداء من الدرجات الرفيعة والمراتب العلية والمساكن الطيبة والحياة الدائمة والرضوان الذي هو أعلى من كل مكرمة.

ويسقط في الدنيا وجوب تغسيلهم وتحنيطهم وتكفينهم إذا لم يكونوا عراة، فيدفنون في ثيابهم مع الدماء، ولا ينزع شيء منها سوى ما كان من الفراء والجلود، وسوى ما كان إبقاؤه مضرًا ضررًا عظيمًا على الورثة إذا قتل بين الصفين وأدركه المسلمون ولم يكن به رمق الحياة".

هذا يطلق عليهم ماذا؟ يطلق عليهم هؤلاء شهداء، وهذا جهاد حقيقة.

ثم قال الجزء الرابع من "كشف الغطاء" صفحة مائتين واثنين وتسعين: "ثم إن هناك أنواعًا أخرى من الحرب السائغة أو الواجب بحسب الشر يطلق عليها اسم الدفاع، ولا تندرج على سبيل الحقيقة في اسم الجهاد، وهي أقسام ثلاثة: أحدها الدفع عن نفسه في مقابلة عدو أراد قتله، فإنه يجب عليه المقابلة متى احتمل حصول السلام بالدفاع، وإن علم أنه مقتول لا محالة بحيث يقتل ويقتل في الآن واحد، استحب له ذلك وقد يقال بوجوبه". متى يجب عليه؟ إذا علم أنه سيقتل، لابد أن يدافع عن نفسه، يجب عليه أن يدافع عن نفسه.

ثانيها: الدفع عن عرضه أو عن نفس مؤمن أو عرضه، فيجب عليه ذلك مع ظن السلامة، ولا يجوز بدون ذلك، إذا ما يظن السلامة ما يعرض نفسه إلى القتل، طبعا هذا أيضًا موطن خلاف بالنسبة إلى العرض.

ثالثها: الدفع عن ماله أو مال مؤمن، فيستحب الدفاع عنه، ولا يجب إلا مع ظن ترتب التلف على فقده، مثلاً: إذا أخذ منه الماء ويموت، فهذا صحيح مال، ولكن هذا يرجع إلى ماذا؟ إلى الدفاع عن المال، كأن يأخذ منه الماء، وإلى أجله وهو في مهلكته، فيرجع إلى الدفاع عن النفس.

وهذه الأقسام الثلاثة تسمى دفاعًا، وإطلاق الجهاد عليها غير شائع، ولا يجري على المقتول فيها حكم الشهيد في الدنيا من جهة تغسيل ونحوه، وإن عدوا في الآخرة من الشهداء، وحاله كحال من أدخل في اسم الشهداء مع موته حتف أنفه من غير قاتل، كالغريق والحريق والمبطون والميت في النفاس، أو في طريق طاعة، أو غربة، إلى غير ذلك.

والمهم هو بيان الوجوه الأربعة عشر، فإنها تستحق التأمل.

الأول: يشترط في الجهاد الابتدائي حضور الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، دون النائب العام، على المشهور، وإن ذهبنا إلى أن الجهاد الابتدائي مشروع في عصر الغيبة الكبرى، ويحق للمجتهد الجامع للشرائط، وهو النائب العام، أن يتخذ قرار الجهاد الابتدائي، لكن على المشهور، فإن الجهاد الابتدائي من خواص المعصوم أو نائبه الخاص، ولا يشترط حضور المعصوم أو إذنه أو نائبه الخاص في الجهاد الدفاعي.

الثاني: يستثنى في الجهاد الابتدائي من المكلفين أصنافٌ في وجوب الجهاد، كالمريض مرضًا ضارًا، والفقير الذي يعجز عن النفقة مع عدم وجود الباذل، ومن فقد الدابة التي تقله إلى المعركة، والعبد، والأنثى، والخنثى، ومن عرض له عارض كمن حل دينه وطالبه به الدائن، أو افتقد نفقة العيال الواجبة، أو عرضه الواجب كحج أو طاعة والدين، فإن الجهاد الابتدائي يسقط عنه.

بخلاف الجهاد الدفاعي، فلا يسقط شيء من ذلك وجوب الجهاد الدفاعي عليه، بل المدار في وجوب الجهاد الابتدائي على القدرة وعدم العجز، فما دام قدراً على الدفاع عن نفسه أو بلده، فإن الجهاد الدفاعي يجب على كل قادر على النصرة من قريب أو بعيد، ويجب على جميع المسلمين الحضور إلى المعركة بنحو الوجوب الكفائي، ولا يسقط الجهاد الدفاعي إلا إذا قام من به الكفاية وقاتلوا.

الثالث: في الجهاد الابتدائي لا يجوز التخلف عن الهدنة والأمان والصلح والعهد، ولا يجوز الاحتيال بالكذب والتزوير، بخلاف الجهاد الدفاعي، فإذا قوي الكفاة وخيف الضرر، وجب الدفاع ولو بخرق الهدنة أو الأمان أو الصلح أو العهد، فهذه الأمور لا تكون ملزمة في الجهاد الدفاعي، لكنها ملزمة في الجهاد الابتدائي.

الرابع: يختص الجهاد الابتدائي بما إذا كانت المحاربة مع الكفار لجلبهم إلى الإسلام، فيشترط في الجهاد الابتدائي أن يكون المقابل من الكفار لا المسلمين، بخلاف الجهاد الدفاعي، فلا يفرق بين الكفار وبين المسلمين والمؤمنين إذا أرادوا ما أراده الكفار، فلعل بعض المسلمين، سواء كانوا مخالفين في المذهب أو موافقين، قاموا بذلك لطمعٍ في الدنيا وحب الرئاسة، فحينئذ يجب الدفاع عنهم، لذلك ذكرنا ثلاث طوائف للجهاد: الأول: المشركون، الثاني: أهل الكتاب، الثالث: البغاة. وقسمنا البغاة طائفة تبغي على طائفة، أو طائفة تبغي على الحاكم الإسلامي.

الخامس: يلحظ في وجوب الجهاد الابتدائي عدم زيادة الكفار على الضعف أو على عشرة أمثال، كما سيأتي، ولا يشترط في الجهاد الدفاعي ذلك، بل يلحظ القدرة وعدمها.

السادس: لا يجوز الجهاد الابتدائي في الأشهر الحرام، بخلاف الجهاد الدفاعي فإنه يجوز. نعم، بالنسبة إلى القتال في الحرام فلا مانع بالنسبة إلى الجهاد الابتدائي، وبالنسبة إلى الجهاد الدفاعي فيجوز ذلك إن شخصه الإمام المعصوم المصلحة.

السابع: يختص وجوب الجهاد الابتدائي بمرة في السنة على قولٍ، ولا يوجد تحديد للجهاد الدفاعي.

الثامن: يجب الدعاء إلى الإسلام قبل محاربة الكفار في الجهاد الابتدائي، فإن أبوا وامتنعوا، حوربوا، ولا يلزم الدعاء إلى الإسلام في الجهاد الدفاعي.

التاسع: ليس للإمام الأخذ من أموال المسلمين قهرًا للتوصل بها إلى الغرض المطلوب في الجهاد الابتدائي، لكن يجوز للإمام أو الرئيس في الجهاد الدفاعي أن يتناول من الأموال ما لم يكن عنده لكي يحقق ما يقوم به الكفاية لدفع الكفار عن المسلمين، فيجوز له أن يأخذ مقدار ما يحقق الكفاية في دفع الكفار.

العاشر: الجهاد الابتدائي لا ينقض عقد الجزية والأمان والهدنة والصلح والعهد، وإن أصر الكفار على عدم الامتثال لما أمروا به من الإسلام، لكن نظرًا لوجود عهد بين المسلمين والكفار، فحينئذ لا يسوغ الجهاد الابتدائي، لكن في الجهاد الدفاعي ينقضه أحد هذه الأمور.

الحادي عشر: في الجهاد الابتدائي لا يجب بذل المال المضر بالحال، بينما في الجهاد الدفاعي يجب بذل المال حتى لو أضر بالحال لدفع الكفار عن المسلمين.

الثاني عشر: تجب قسمة الغنائم بين المجاهدين في الجهاد الابتدائي على التفصيل الذي سيأتي في قسمة الغنائم. وأما في الجهاد الدفاعي، فإذا توقف الغنائم على صرف الغنائم على العساكر والجنود، صرفت من دون تقسيم عليهم.

الثالث عشر: في الجهاد الابتدائي لا ينبغي القتل بالسم، ولا تبيت العدو بالليل، القتال يكون في النهار، والأفضل عند الزوال، بينما في الجهاد الدفاعي، الأوقات كلها متساوية، المهم دفع العدو.

الرابع عشر والأخير: في الجهاد الابتدائي، إذا جاءت سرية بالغنيمة لكنها قاتلت بغير إذن الإمام، فهذه الغنيمة تكون للإمام عليه السلام، ولا يجوز لغير الإمام أن يأخذها، فهذه حق الإمام، وأما في الجهاد الدفاعي، فهذه الغنيمة للفرق المقاتلة، تقسم بينها قسمة الغنائم.

هذا تمام الكلام في الوجوه الأربعة عشر للتفريق بين الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي، وقد يناقش في بعضها، كالأول، وهو اشتراط حضور أو إذن المعصوم أو نائبه الخاص على المشهور/ صلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين