بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

الدليل الرابع على وجوب الجهاد الابتدائي

الدليل الرابع على وجوب الجهاد الابتدائي هو عموم الآيات القرآنية؛ فمن خلال التمسك بعموم المتعلق بالآيات القرآنية يمكن أن تُثبت مشروعية الجهاد الابتدائي بما فيها من أدوات العموم، وحينها لا حاجة للتمسك بإطلاق الآيات الأخرى، إذ أن حجية العموم أقوى من حجية الإطلاق، لأن مستند العموم هو الدليل اللفظي بخلاف مستند الإطلاق الذي هو مقدمات الحكمة.

ومن هذه الآيات التي تصلح شاهداً للتمسك بالعموم قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ" (سورة التوبة، آية 36).

تقريب الاستدلال: التمسك بلفظ "كافة" فهو من أدوات العموم، فيكون المعنى قاتلوا المشركين كافةً وجميعاً، سواء كانوا في موقع الهجوم أو في موقع الدفاع.

وقد يُشكل هنا ويُقال إن الآية الكريمة قالت: "كما يقاتلونكم كافة"، وقد يظهر منها الجهة الدفاعية فهي ظاهرة في فعلية قتالهم، فتكون الآية في مقام بيان نوع الجهة، وهو خصوص الجهة الدفاعية ولا يشمل الجهة الابتدائية.

لكن يمكن أن يستظهر من هذه الآية أنها في مقام بيان الحيثية التعليلية للقتال لا بيان نوعية القتال، أي لماذا تقاتلون المشركين كافة لأنهم يقاتلونكم كافة، أي أن المشركين بأجمعهم وبكل ثقلهم يريدون لكم الشر والسوء، فانفروا بأجمعكم لمواجهتهم وقطع شرهم، سواء بالجهة الدفاعية أو الجهاد الابتدائي.

فقوله تعالى "كما يقاتلونكم كافة" أي أنهم يضمرون لكم العداء والحقد والشر، ويريدون الكيد بكم وقتالكم لو تهيأت لهم الظروف والفرصة، فإذا تمكنوا منكم سيهجمون عليكم، فلا بد من قتالهم كافةً، وليس بمعنى أنهم يقاتلونكم كافةً بالفعل فإنه من الواضح خارجاً في ذلك الوقت لم يكونوا يقاتلوا المسلمين كافة إذ أن بعض الكفار لم يسمع بالمسلمين في ذلك الوقت، ولم يكن جميع الكفار قد قاتلوا المسلمين، فتكون هذه الآية بعموم "كافة" تدل على مشروعية الجهاد الابتدائي.

ونحن والاستظهار فإن ناقشنا وقلنا بأن هذا يلزم منه التقدير، والأصل عدم التقدير، فهنا تحمل القتال "كافة" على شأنية القتال الكافة لا على فعليته، والأصل عدم التقدير، فهذا الاستظهار الذي ذهب إليه الشيخ الآصفي رحمه الله في كتاب "الجهاد" صفحة 37 يحتاج إلى تقدير فتكون الآية هكذا: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" أي قاتلوا المشركين كافة كما هو شأنهم ودأبهم أنهم يقاتلونكم كافة.

وهذا التقدير الشأن والقابلية لا قرينة تدل عليه على القتال كافة بالنسبة إلى الواقعة التي ذكرتها سورة التوبة، فلا يتم الاستدلال.

إذن الدليل الرابع قابل للمناقشة كما أن الأدلة الثلاثة الأولى قابلة للمناقشة، ولعل أقواها الدليل الثاني.

الدليل الخامس هو أقوى الأدلة وأصحها على وجوب الجهاد الابتدائي، وهو التمسك بآيات سورة براءة وهي أول ستة عشر آية من سورة براءة، ولنقرأ هذه الآيات لنرى الطوائف الثلاث المذكورة فيها: فهي تذكر الطائفة الأولى وهم من لم يرتبط مع المسلمين بعهد، والطائفة الثانية من ارتبط بعهد ونقضه، والطائفة الثالثة من ارتبط بعهد واستقام ولم ينقضه.

وفي البداية تتكلم عن الطائفة الأولى التي ليس لديها عقد مع المسلمين وتأمر بقتالها، قال تعالى في بداية سورة التوبة: "بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ" فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزِي الله، وأن الله مخزي الكافرين، وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله، فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وبشر الذين كفروا بعذاب أليم، إلا الذين عاهدتم من المشركين، ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً، فأتموا إليهم عهدهم إلى مدته، إن الله يحب المتقين. فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم... إلى قوله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَهُ" وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (سورة التوبة، الآية 1 إلى 16).

هذه أول ستة عشر آية من سورة براءة وهي صريحة في القتال الابتدائي ومشروعيته.

بيان ذلك:

إن المشركين في عصر نزول سورة براءة كانوا ثلاث طوائف، سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بخلاف سورتي النساء والأنفال اللتين نزلتا في بداية العهد المدني، والمشركون في عهد ما بعد فتح مكة فترة نزول سورة براءة على ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى من لم يرتبط بالمسلمين بعهد.

الطائفة الثانية من ارتبط بعهد مع المسلمين ونقضه.

الطائفة الثالثة من ارتبط بعهد مع المسلمين واستقام ولم ينقض العهد.

وهذه الآيات الستة عشر تعطي حكم الطوائف الثلاث.

الطائفة الأولى التي ليس لها مع المسلمين عهد، فقوله تعالى: "وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فإن تبتم فهو خير لكم، وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم" يتحدث عن هذه الطائفة بدليل الاستثناء الموجود في الآية التي تليها وهو قوله تعالى: "إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ" فمعنى أن صدر الآية ليس ناظراً إلى المعاهدين، فالآية إذن تُشخّص المقصود من المشركين وتحدد الموضوع، ففي صدر الآية يُراد المشرك غير المعاهد، وتنص في نفس الوقت على حكمهم وهو براءة الله ورسوله منهم، والبراءة هنا تعني هدر الدم وعدم وجود حرمة لهم سواء كانوا قد ابتدأوا المسلمين بحرب أو لم يبتدئوا.

لذلك النبي صلى الله عليه وآله كلف علي بن أبي طالب بتبليغ سورة براءة لأنها تحتاج إلى رجل شديد في ذات الله يمكن أن يواجه المشركين.

الطائفة الثانية هم من نقضوا عهدهم مع المسلمين وطعنوا في دينهم، فحكمهم نفس حكم الطائفة الأولى، لكن الطائفة الثانية أصُرحوا موضوعًا من الطائفة الأولى، وذلك لأنهم دخلوا في عهد مع المسلمين ثم نقضوه.

ويظهر من قوله تعالى: "وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ" (سورة التوبة، آية 12)، وقوله تعالى: "أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (سورة التوبة، آية 13).

هذان النصان ظاهران في وجوب مقاتلتهم بمجرد نقض عهدهم وإن لم يكونوا قد ابتدأوا المسلمين بقتال أو حرب، ففي هذه الحالة يُصدق على مقاتلتهم الجهاد الابتدائي.

لكن قد يُناقش هنا بقوله تعالى: "وهم بدأوكم أول مرة" فتحمل الآية على الجهاد الدفاعي لا الابتدائي لأنهم هم الذين بدأوا وأخرجوا.

الطائفة الثالثة وهي التي استقامت على عهدها. هذه الطائفة يُوفى لها العهد حتى تمام الأجل المضروب، فإذا تم الأجل، تُشرع مقاتلتهم. يدل على ذلك قوله تعالى: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئًا ولم يظاهروا عليكم أحدًا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، وهذا ظاهر في قتال المشركين بمجرد أن تنتهي المدة، وهذا يُعد قتالاً ابتدائياً.

ومن يقرأ سورة التوبة وآيات القتال فيها يظهر له بوضوح أنها ظاهرة في الجهاد الابتدائي وأن الغرض من القتال هو توبتهم، والغاية المرجوة من القتال أن يتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله.

إذن الدليل الخامس، المتمثل في التمسك بآيات سورة التوبة، تام لا غبار عليه وواضح جداً لمن يراجع آيات سورتي براءة والتوبة، وأن القتال غايته توبتهم، وما لم تحصل التوبة فالله بريء منهم، فيُشرع قتالهم.

إلى هنا تم المقتضي وهي الآيات الدالة على مشروعية الجهاد الابتدائي، وأقوى هذه الأدلة هو الدليل الخامس المتمثل في آيات سورة براءة، ويقع الكلام على أي معارضة محتملة من آيات أخرى يمكن أن تُخصص بعض الآيات الدالة على وجوب الجهاد الابتدائي ضد المشركين، وهي تنقسم إلى طائفتين: الطائفة الأولى هي الآيات التي تدل على الطبيعة الدفاعية للقتال، والطائفة الثانية الآيات التي تدل على أن السلم هو طبيعة العلاقة بين المسلمين والكافرين.

فلنشرع في بيان الطائفة الأولى وعلاجها، والآيات التي تمثلها لهذه الطائفة هي: الآية تسعون من سورة النساء والآية واحد وستون من سورة الأنفال.

فيما يخص آية سورة النساء، قوله تعالى: "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" (سورة النساء، آية 90)، فهي تنفي أن يكون للمؤمنين سبيل أو حق شرعي في قتال المشركين فيما إذا اعتزل المشركون المسلمين ولم يقاتلوهم وألقوا إليهم السلم والمسالمة. وبناءً على ذلك، لا يُشرع قتال المشركين إذا لم يبدأ المسلمون بقتال.

ومن هنا يتضح إذن أن هذه الآية ناظرة إلى الجهاد الدفاعي ولا تشمل الجهاد الابتدائي.

أما الآية الثانية فهي قوله تعالى: "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم" (سورة الأنفال، آية 61).

وهذه أيضاً واضحة في الطبيعة الدفاعية للقتال، بل هي أصرح من الآية الأولى من سورة النساء، إذ أن الجنوح إلى السلم المذكور في الآية أضعف من إلقاء السلم الذي ذكرته آية النساء، فآية الأنفال تقول إنه إذا جنحوا، بمعنى إذا وجدتم فيهم ميلاً إلى السلم، فاجنحوا للسلم أيضاً.

إلا أن آية النساء أصرح من آية الأنفال في الطبيعة الدفاعية للقتال لأنها تُشير إلى أنهم لا يمكن للمؤمنين أن يكون لهم سبيل على المشركين.

والخلاصة آية النساء تسعين وآية الأنفال واحد ستين صريحتان في الطبيعة الدفاعية للقتال وصريحتان في أن المشركين إذا ألقوا السلم كما في سورة النساء أو جنحوا للسلم كما في سورة الأنفال فإن القتال لا يشرع ولا يكون للمسلمين سبيل على الكافرين في هذه الحالة.

إذن، هناك تعارض بين آيات سورة براءة وبل الأدلة إن دلت على مشروعية الجهاد الابتدائي كالتمسك بالعموم أو الإطلاق وبين هاتين الآيتين الدالتين على عدم مشروعية الجهاد الابتدائي.

والقاعدة الأصولية هي حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، فنخصص ونقيد عموم وإطلاق آيات سورة براءة بآية النساء: "فإن اعتزلوكم وألقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم" فآية البراءة التي تقول: "وقاتلوا المشركين كاقة والتي تقول وقاتلوهم حيث وجدتموهم نقيدهما بآية النساء التي تقول فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واختلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا سورة النساء آية واحدة السنة.

فتكون النتيجة فقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم فقط أما إذا اعتزلوكم ولم يقاتلوكم ويلقوا إليكم السلم فلم يجعل الله لكم عليهم سلطاناً أي لا يحق لكم أن تقاتلوهم.

وهكذا نخصص آيات سورة براءة بآية الأنفال وتكون النتيجة هكذا وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم فإن جنحوا للسلم يرتفع عنكم الإلزام بقتالهم والمرجح لكم أن تجنحوا للسلم هذا هو الفهم الصناعي.

لكنه ليس بتام هنا، إذ أن آيات سورة براءة متأخرة عن بقية السور، وسورة التوبة نزلت بعد فتح مكة، بينما نزلت آيات سورتي النساء والأنفال في أوائل العهد المدني بالمدينة. فهنا إما أن يلتزم بالنسخ وأن سورة براءة قد نسخت آية سورة النساء والأنفال وذهب جملة من المفسرين، منهم ابن عباس، لكننا نلتزم أن النسخ لم يقع في القرآن الكريم إلا في خصوص آية النجوى، وقد تقدم الكلام فيه.

إذا نحمل ذلك على المرحلية في التشريع، إذ الآيات الكريمة مرت بمراحل:

المرحلة الأولى: كف الأيدي عن القتال

المرحلة الثانية: الإذن بالقتال

المرحلة الثالثة: الإلزام الدفاعي

المرحلة الرابعة: وجوب الجهاد الابتدائي

فآيات سورة النساء والتوبة ناظرة إلى المرحلة الثالثة مرحلة تشريع الجهاد الدفاعي، بينما آيات سورة براءة ناظرة إلى المرحلة الرابعة وهي مرحلة التشريع ووجوب الجهاد الابتدائي، والله العالم.

إذن الطائفة الأولى لا تصلح للمعارضة لأنها متعلقة بالمرحلة الثالثة وهي مرحلة الجهاد الدفاعي بينما آيات سورة براءة مرتبطة بالمرحلة الرابعة وهي مرحلة الجهاد الابتدائي، وهذا بلحاظ زمن نزول السور والآيات والله العالم.

الطائفة الثانية التي قد تصلح للمعارضة، يأتي عليها الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين