بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدالله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليًا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودليًلا وعينًا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلًا برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم

شرح قوله عليه السلام: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم".

"اللهم" بمعنى "يا الله"، و"النقم" جمع "نقمة"، وهي العقوبة، فكما في الفقرة الأولى، يطلب العبد من ربه أن يغفر له الذنوب التي تُسبب العقوبة، يتضرع هذا العبد إلى الله في أن يغفر له الذنوب التي تنزل العقوبة.

وقد يقال: إن جميع الذنوب تنزل العقوبة، فما هو السر في التنصيص على هذه الذنوب التي تنزل النقم والعقوبات؟

والجواب: هذه الذنوب أسرع في تحقق العقوبة.

فما هي هذه الذنوب التي تنزل النقم؟

إنها خمسة ذنوب وردت في حديث الإمام الصادق عليه السلام، وهي: نقض العهد، ظهور الفاحشة، شيوع الكذب، الحكم بغير ما أنزل الله، ومنع الزكاة، وتطفيف الكيل، فهذه ستة ذنوب وردت في كلمات الإمام الصادق عليه السلام.

وقد نص على خمس منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "خمس بخمس"، قالوا: يا رسول الله، ما خمس بخمس؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا وقد فشى فيهم الموت، وما شاع فيهم الكذب والحكم بغير ما أنزل الله إلا وقد فشى فيهم الفقر، وما منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين"، فتطفيف الكيل هو نقص الوزن والتلاعب بالميزان والمكيال، ومنع القطر أي أن السماء تمنع قطرها ومطرها.

وهنا يأتي السؤال الآخر: لماذا كانت هذه الذنوب بالخصوص هي التي تنزل العقوبة، والحال إن جميع الذنوب من جهة إنزال العقوبة على حد سواء؟ ناظراً لوحدة الملاك فيها، وهو الجرأة على الله عز وجل وانتهاك حرمته بمخالفة أوامره وعدم اجتناب نواهيه.

والجواب: هذه الذنوب لو تأملنا فيها لوجدنا أن مفاسدها لا تختص بالفرد بل تضر المجتمع وتنخر في كيانه، ولا أقل أن مجموع هذه الذنوب يؤدي إلى تضرر كيان المجتمع، وتجر الويلات على هذا المجتمع، فالمجتمع المبتلى بهذه الذنوب في مهاوي الرذيلة، بل إن بعض هذه الذنوب لوحده يكفي لتدمير أمة، مثل الكذب، ففي الرواية جعلت الذنوب في بيت وجعل مفتاحه الكذب، وفي الرواية الأخرى جعلت الذنوب في بيت وجعل مفتاحه شرب الخمر.

فأي مجتمع لا يرجى منه الخير إذا سادت فيه هذه الذنوب: كذب ونقض للعهد، فإذا نقضوا العهد والموعد لم يلتزموا في تجارتهم ومعاشهم فتشيع الفوضى في هذا المجتمع وتنزل النقم والويلات.

وهكذا لو ظهرت الفاحشة فيهم، والمراد بالفاحشة الزنا وغير ذلك، كاللواط والسحاق، فالمجتمع الفاسد أخلاقيا مفكك اجتماعيا، وتترتب مضار اجتماعية كثيرة على هذه العقوبات، وهنا قد ينتقم الله عز وجل منهم إذا تمادوا ولم يتناهوا، قال تعالى: "فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون" (سورة البقرة، آية 59).

وقد جاء في الرواية: "ثلاثة تعجل عقوبتها في الدنيا ولا تؤجل إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على الناس، ومقابلة الإحسان بالإساءة".

ولاحظ أن هذه الذنوب الثلاثة تفكك المجتمع، رجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، يظلمك، البغي على الناس يعني ظلم الناس، "لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً، فالظلم آخره يأتيك بالندم. تنام عيناك والمظلوم منتبه، يجعو عليك، وعين الله لم تنم".

ظلم الناس، هؤلاء الطغاة والحكام الذين ظلموا الناس، رأينا ذلهم في التلفاز، يفرون أو يعذبون في صورة مهينة ومذلة، البغي على الناس، ظلم الناس، هذا لا يؤجل: الآخرة عقوبته تكون سريعة في الدنيا.

وهكذا عقوق الوالدين، من عق والده فإن العقوبة سيرى عواقبها في الدنيا.

وهكذا من يقابل الإحسان بالإساءة.

إذن هذه الآية تنص على أن الذين ظلموا وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، أنزل الله عليهم رجزا من السماء، عذابا من السماء، إذن هذه الذنوب التي تنزل النقم أكثر، هي تتصل بالجانب الاجتماعي، تفكك المجتمع، والمجتمع إذا تفكك أصبح منفلتا وحلت به الويلات، كالكذب، ونقض العهد، وظهور الفاحشة، والحكم بغير ما أنزل الله، ومنع الزكاة، والتطفيف في المكيال. هذه كلها تؤدي إلى تفكيك وتفتيت المجتمع، فتحل النقمة ويحل البلاء بذلك المجتمع.

ثم قال عليه السلام: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم".

النعم جمع نعمة، وهي ما تفضل الله به على عبده من الرزق والعافية والسلامة وغير ذلك من عطاء الله على الإنسان. وفي اللغة، إن نعمة الله هي ما أعطى الله العبد مما يتمنى غيره أن يعطيه إياه.

ولكن ما هي الذنوب التي تغير النعم؟

جاء في حديث الإمام الصادق عليه السلام عدة الذنوب تغير النعم، وهي كما يلي: ترك شكر المنعم، الافتراء على الله والرسول، قطع صلة الرحم، تأخير الصلاة عن أوقاتها، الدياثة، ترك إغاثة الملهوفين المستغيثين، وترك إعانة المظلومين، هذه سبعة ذنوب توجب تغير النعم.

وأبرزها ترك شكر الله على نعمه وآلائه، قال تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد"، فالشكر يوجب الزيادة والنماء وكثرة النعمة، وقد عبرت الآية عن عدم الشكر بالكفر، أي كفران النعمة، وجزاؤها عذاب الله الشديد.

ويحدثنا التاريخ أن أمة من الأمم أنعم الله عليهم، فوصلوا إلى درجة من السرف والبذخ إلى أن يتطهروا من غائطهم بالخبز، حتى اجتمع جبل من الخبز الملوث بعذرتهم، فأذاقهم الله لباس الجوع، فعمدوا إلى تلك الجبال وأكلوا ذلك الخبز بعذرتهم، كما عبر السيد القزويني حفظه الله قائلاً: "أكلوا الخبز بودامه"، فعدم شكر النعمة أو كفران النعمة يؤدي إلى زوال النعمة.

أمر آخر: قطع صلة الرحم، وفي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "وَإِنَّ الْيَمِينَ الْكَاذِبَ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمَ لَتَذَرَانِ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ مِنْ أَهْلِهَا"، والبلقع هو الأرض القاحلة القفر، ليتصور الإنسان هذا البيت الذي يعيش فيه وهو مليء بالنعم والخيرات، فإذا قطع رحمه وحالف بالله كاذبًا (هذه اليمين الغموس أو الكاذبة)، فإن هذا البيت يصبح كالصحراء القاحلة، وهذه الذنوب توجب زوال النعمة.

إذن، ذكر سبع الذنوب، المجموع يمكن أن يصل إلى كثير لعل تسعة أو عشرة نعددهم:

الأول: ترك شكر المنعم.

الثاني: الافتراء على الله والرسول.

الثالث: قطع صلة الرحم.

الرابع: تأخير الصلاة عن أوقاتها، خصوصًا وقت صلاة الفجر لأن الأرزاق توزع بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.

الخامس: الدياثة، وما المراد بالدياثة؟ بالعامية نقول ديوس، هي ديوث، والدياثة والديوث هو الرجل الذي يدخل الرجال على مرأته، يعني يكد من فرج زوجته، وقد لا يكون يدخلهم على زوجته لزنا بها، هذا يوجب تغيير النعمة.

السادس: ترك إغاثة الملهوفين والمستغيثين.

السابع: ترك إعانة المظلومين.

الثامن: اليمين الكاذبة.

ثم قال عليه السلام: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء"، أي أن هذه الذنوب تمنع الدعاء من التأثير في الإجابة، فحتى لو دعا المؤمن بقلب محترق وخاشع وخاضع، وذهب إلى أفضل الأماكن، ودعا في زمان له حرمته، وفي مكان له قدسيته، وعلى الرغم من ذلك فإن الله عز وجل لا يستجيب له، على الرغم من أن الله أقرب إلينا من حبل الوريد.

فمعنى الدعاء هو المناجاة مع الله، وهو يعبر عن حالة نفسية يعيشها العابد في لجائه إلى الله وتضرعه إلى خالقه، لكن بعض الذنوب تحبس الدعاء.

والسر في ذلك: أن بعض الذنوب توجب الرين على القلب والحاجز، فتحول بين قلب المؤمن وربه.

في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من عبد مؤمن إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبًا، خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السواد، وإذا تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، ولم يرجع صاحبه إلى خير أبدًا"، وهو قول الله تعالى: "بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون"، والرين هو الحجاب الكثيف، والمراد به حجاب الذنوب والآثام، وهي النكتة السوداء التي توجب سواد القلب وما تورثه من ظلمة القلب وقساوة القلب، وتمنع من وصول النور الإلهي إلى قلب الإنسان.

وهذه الذنوب التي تحبس الدعاء هي الذنوب التي توجب ظلمة القلب مثل سوء النية وخبث السريرة والنفاق مع الإخوان، فهذه توجب ظلمة القلب وتمنع الإنسان من الإقبال على الله تبارك وتعالى، ذلك ورد في بعض الروايات: "ثم تدعو فلا يستجاب لكم" مثل هذه الرواية: "لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، وإلا ليسلطن الله عليكم من لا يرحمكم، ثم تدعو فلا يستجاب لكم".

ثم قال عليه السلام: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء"، البلاء هو الغم والذنوب تكون سببًا في نزول البلاء، والذنوب التي تنزل البلاء كما ورد فيه كلام الإمام زين العابدين هي: ترك إغاثة الملهوفين، وترك معاونة المظلوم، وتضييع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وفي بعض الأخبار أنها سر الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله تعالى، وقذف المحصنة، وهي امرأة متزوجة عفيفة تقذفها بالزنا، وأكل مال اليتيم ظلمًا، والزنا، والفرار من الزحف يعني من الجهاد والمعركة، والسرقة.

ولا تنافي أن تكون بعض الذنوب تسبب سببين أو أكثر، مثل الآن ترك إغاثة الملهوف يؤدي إلى نزول البلاء، ويؤدي أيضًا إلى ماذا؟ ويؤدي أيضًا إلى تغيير النعم.

قوله عليه السلام: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء" يأتي عليها الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين